مقالات

هشام عبدالملك الجزولي يكتب : حلفا دغيم ولا بيروت!

المهندس تاج النجومي، تجمعه صلة قرابة لصيقة مع الراحل طلعت فريد، وقد نقل عنه، أنه كان ضمن الوفد الذي رافق الفريق عبود في زيارته الشهيرة إلى أمريكا، والتي طلب فيها جون كينيدي من عبود، أن يقدم قائمة بطلباته، لكنه فاجأه بقوله، “نحن ليست لدينا طلبات”، وبرر ذلك الموقف بأنه إنما إتخذه حرصا منه على صيانة إستقلالية القرار السوداني!!
من المؤكد أن ذلك كان سوف يكون أمرا جيدا، وسابقة مضيئة في تاريخ السياسة السودانية، لو لا أن نفس الرجل، عاد من أمريكا ليتنازل لرئيس مصر جمال عبد الناصر عن جزء عزيز من تراب الوطن ومياهه، في صفقة ملعونة، مثلت خيبة الإنسان السوداني وضعفه أمام شعارات الهوس العروبي والديني الفاسدة، التي أوردتنا موارد التهلكة، وأوصلتنا إلى ما نحن فيه من تخلف وضياع!! فقد إرتكب (السنجك) جريمة لن تمحوها الأيام، ولن يغفرها تاريخ بلاد النوبة!!
لم يكن عبود هو المجرم الوحيد، بل شاطره الشعب السوداني المفتون بأوهام القومية العربية كل تفاصيل تلك الدراما التعيسة.. فقد كنا ونحن صغار نتابع نضالات الشعب النوبي العظيم، وصرخاته على ضياع وطنه (حلفا دغيم)، حول مطعم الإخلاص في وسط الخرطوم، ولا نأبه لما يحدث لهم من إعتقالات ومعاملة غير كريمة من رجال الأمن، تماما كما كان يفعل كبارنا وزعماؤنا السياسيون، الذين لاذوا بالصمت المريب، خوفا أو جهلا!!
كانت أمريكا، وليس في ذلك رجم بالغيب، تسعى لخنق مصر، بعد أن تمكن عبد الناصر من الحصول على موافقة السوفيت لتمويل السد العالي، ردا على تطويق الأمريكان لمصادر تمويله من المؤسسات المالية العالمية التي يسيطرون عليها..
ولعل الغريب في الموضوع، أن السيد عبدالله خليل، رئيس وزراء حكومة الإستقلال، عمد وفقا لكتابات بعض المؤرخين، إلى تسليم السلطة للجيش خوفا من التغول المصري، وشكوكه في نوايا الإتحاديين، فأخطأ مرتين.. فهو في المرة الأولى، فتح الطريق إلى السلطة أمام العسكريين، وإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة، وفي المرة الثانية سهل من مهمة عبدالناصر في إختراق إجماع الشعب السوداني.. فالزعيم الأزهري ما كان بوسعه أن يوافق على العرض المصري، حتى لو إفترضنا جدلا أنه كان قريبا من مصر (وبسمع الكلام!!) لأن الموافقة على مثل تلك المؤامرة المصرية سوف تستدعي الحصول على موافقات كثيرة، وفقا لاشتراطات آليات النظام الديمقراطي، وكان بمقدور حزب الأمة، حتى لو كان خارج السلطة، أن يستخدم عضويته في البرلمان لإحباط تمرير الصفقة، أو حتى اللجوء إلى المحكمة الدستورية لإسقاطها في خطوة إستباقية تمنع تقديمها إلى البرلمان.. لكن، كما تقول إدارات أندية كرة القدم عندنا بعد كل هزيمة، “قدر الله وما شاء فعل”، وهذا هو حقا لسان حالنا في سودان الفرص الضائعة.. فالأراضي التي سرقها الكيزان سوف تعود حارة حارة، وزنقة زنقة، أما ما تفضل به عبود وما فرط فيه عمر حسن للمصريين، فإنه لن يعود، ولو بخلع الضرس كما يقولون.. وغدا نواصل!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى