خارج الصندوق

عبد الباسط سر الختم يكتب : خلِّينَا فوق الشك نَعُوم

خلِّينَا فوق الشك نَعُوم .. عمر الدوش

ولعمر الطيب الدوش هالة ورمزية يصعب تفكيكها وأيضاً إحتشاد بالتفاصيل على غير ملل فيصحب القارئ في تنزه خيالي بديع ومتعة النص في لغته وحبكتها السردية؛ فتخصص الدوش كمسرحي جعله مسترسل مُجيد للتفاصيل ليجسد الكلمات في شخوص ذات ملامح ودماء (العمدة جابر ودخف الفيل.. سعاد.. طه المدرس… تاجوج… محمد ود حنينة)
فيقول الدوش على لسان العمدة جابر لمرساله العاطفي
أمْرُق حشاي قِدَّامهْا يلْمَع بالوجع..
قُول ليهَا لمَّا الشوق يبين
مابين ..شجيرات الأراك
والفرحَه تغْسِل طرْحتهْا
والبدر يمشى على الهلاك
والخوف يكون لسَّع جَنين
فى رُكْنِ من ساحة الوَّلَه
فى زاويَهْ من ساعة الحنين
ما بين دِى ارْضَك ودَاكْ سَمَاك
العُمْدهْ منْتظْرِك هِناك
وقصيدة سعاد هي نسج قصصي صوره الدوش بقلم بديع فما أن تبدأ عند جزئية (محمد ودحنينة)
دقّتْ الدَلّوُكَهْ
قُلنا الدنيا ما زالت بخير
أهو ناس تعرِّس وتنْبَسِط
تكْكَّتَ سروالي الطويل
سويتْلُو رقعات فى الوسط
فى خشْمِي عضّيت القميص
أجرى وازبد شوق وانُط
لا مَن وصلتَ الحفلَهْ زاحمتَ الخلق
وركزْتَ
شان البِتْ سُعاد
والتكة – بكسر التاء- خيط قماشي رفيع يستخدم لربط السروال والسروال الطويل عند أهل الشمال يخاط بطريقة تجعله يتسحب على الأرض وتوضع عليه قطعتان صغيرتان عندا كان الأرجل وتسمي (العيون) من لون مختلف عادة الأسود
والتتكيك هو عملية إدخال التكة داخل الفراغ المخصص لها في السروال وهذا النوع من السروال يسمى (الجَكِينْ)
وركزت – بفتح الكاف- هي نمط من الوقوف في الحفلات بطريقة محددة للجلد وقد شاع مؤخراً في أوساط نشطاء الوسط السياسى مناداة بعضهم بعضاً (ياراكز) دلالة عن صنددة الشخص وثباته عند المواقف
والدوش ماكر جداً في تطويع الكلمات لخدمة النص فتأمل (أمرق حشاي قِدَّامهْا يلْمَع بالوجع) والحشي في عامية السودان يقصد به القلب  وكلمة قِدامها والتي تعني أمامها ويستخدمها السودانيين بكثرة فيقال القِدامى والوراني كمدلولات ظرفية مكانية وأيضاً ترد عند البعض بالقِبّلي والصـعيد
وبين سعاد التي توجها عمر الدوش بقصائده وسعاد كعب ابن زهير سمات مجازية تتوائم ظرفياً وتتفق موضوعياً
فما من بعد بين تصوير الولع ونار البعد في البيت السابق و
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ   *   مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ
وقد ظهرت في مخاطبات المدرس لتلاميذه بين القصيده صدر بيت – كعب بن زهير
بانت سُعاد
غامت ملامح السكَّهْ وانكتم المكان
ويتواصل الحوار التصويري بطريقة بديعة بين المدرس والطلاب
ياتلاميذي العزاز
اكتبوا العنوان بخط ممشوق وواضح
احذروا اللحظ البيضحك وهو جارِح
مُرْكَب على الله ويلأّ نجتاز الحدود
للدوش قدرة فائقة على مزج المعاني القريبة والبعيدة بشكل مشوق فبخلاف المعنى الظاهري لقصيدة العمدة جابر وتجسيد ظلامات الإدارات الأهلية كقضية إجتماعية ذات ظلال كبيرة في ظلم الضعفاء وإستغلال النفوذ فقد شكلت القصيدة بعد عاطفي و بحليات رومانسية تحيلك من البعد الاجتماعي والقضية التي تناقشها الي تفصيل وغزل غاية في الامتاع
وانا ياسعاد وكتين تصبى سحابه تنزلى زى دعاش
بفرش على روحى واجيك
زولا هلك تعبان وطاش
وانا ياسعاد وكتين اشوفك ببقى زول
فرشولوا فرش الموت وعاش
وهذه الخلطة السحرية سمة غالبة في ديوان عمر الدوش (ليل المغنين) فمازلت اذكر ذات نهار صيفي غائط كان قد وعدني صديق يساري( ونحن طلاب حينها) وعدني بأن يسلفني ديوان ليل المغنين وقد نحاني جانباً قصياً ليسلمني الكتاب ملفوف على صفحات جريدة باليه ملطخة بزيت طعام على شكل دوائر؛ فسحر المجاز في هذه الكتابات يجعلك تتحسس دوماً تأمينك وتتلفت يُمنة ويسرة فأنت أمام مخطوط مفخخ يحسبها الرقيب منشورات تحرض على تقويض النظام، وإبان الحكم المايوي كانت أغاني الدوش قد منعتها أيادي السلطة من منصات الإعلام وكان حينها حمد الريح لم يتقوقع بعد في برك غناء النّتـر – والرجل النتار هو الذي يِنَهر الآخرين- فقد غني حينها الساقية على ألحان ناجي القدسي  ويقول الدوش لم تكن لدي الرغبة بأن يغنيها حمد الريح فكنت أرغب في أن يغنيها محمد وردي ولكن تقديراً للملحن القدير ناجي القدسي غناها حمد الريح ويقول أيضاً عن الساقية رداً على سؤال محاوره (إعتاد السودانيين على أن تكون للقصيدة مناسبة ولكن القصيدة عندي هي مخرجات لنزاع الذات وتناقضاتها ولشخصي – والحديث للدوش – تجربة ذاتية مع الساقية وعند كتابتها كنت مهموماً بأن أخرج عن النسق الشعري التقليدي المصور في الغزل الي براحات أخرى)
والسَاقية في حقب تاريخية قبل ظهور وابور اللِستر كانت وسيلة ضخ الماء من النيل لسقي الزروع وتدار بواسطة الأبقار في عملية دوران رتيبة ومملة تستمر لفترات طويلة بسبب محدودية ماؤها المضخوخ ودَرج أهل السودان – من الزراع- حين ذاك إجلاس الأطفال لحث الأبقار على الحركة وعدم الوقوف ويحكي والدي الحاج سرالختم أنماط تمردهم من وردية الساقية إذ ذات مرة قضى نهاره متخفياً أسفل قفة كبيرة انتهت منها الحاجة هاجر بت عيساوي (عليها رحمة الله) ووضعتها في الشمس حتى تجف (وإذ كان لنسج الزعف لابد من عَطّنه في ماء ليصبح رخواً ويسهل تشكيله) وقد ضاقت بهم القرية بحثا عنه  ووصلوا الي مشرع البحر فيخرج إليهم مُتعرق من أسفل القفة 
ولعمر الدوش و وردي  حكاية خاصة
ويقول وردي عن الدوش (عمر نقل الأغنية السودانية نقلة مختلفة بابعاد وتراكيب جديده وعندما اتعامل معه كنت أدرك انه شخص غير عادي ويتطلع لأعمال غير عادية)  وكانت (الحزن القديم بناديها الود)
بناديها
وبعْزِم كُلّ زول يرتاح
على ضحكَة عيون فيهَا
وأحْلم اني في أكوان
بتْرحَل من مراسيها
عصافير
نبّتَت جِنْحات
وطارت
للغيوم بيهَا
فتأمل الجمال الوصفي في المنادة وتراجيديا الأفراح التي تُوجت على ضحكات العيون وهذه اللوحة تشبه تماماً ليلة الاحتفال وليالي القيادة العامة حين تنادي السودانيات والسودانيين على ضحكات الوطن فرحاً بعُرسه الميمون وللثورة وجه أخر في قصائد الدوش كيف لا وهو الذي عجن الحب والوطن طيناً وشكل به قصائده
ولا الحزن القديم
إنتِ
ولا لون الفرح
إنتِ
ولا الشوق المشيتْ بيهو
وغلبْنى أقيف
وما بِنْتِ
ولا التذكار ولا كُنْتِ
بتطْلَعِى إنتِ من غابات
ومن وديان…
ومنى أنا..
ومِن صحْيَة جروف النيل
مع الموجَهْ الصباحيَّه
  وقد خرجت الثورة من الغابات والسهول ومن جروف النيل فشكلت لوحة زاهية وأطفال غنوها (كل البلد دارفور) و إشارة الغابة والسهل هي من تعابير مدرسة الغابة والصحراء وإن لم يخض الدوش في هذه الجدلية التي لاساحل لها وأجده أقرب إلى موقف الاب المفكر جمال محمد أحمد
وجمال ليس بقاص ولا شاعر فهو مفكر ومن السودان القلائل الذين حظوا بإحترام وحضور كبيرين خارج السودان في العالمين العربي والافريقي
ويقول الطيب صالح عن جمال (كان بين مثقفي الإنقليز كأنه واحد منهم وبين مثقفي إفريقيا كأنه واحد منهم وكان عاشقاً للعروبة، جمع جمال كل هذه الصفات التي تبدو متناقضة بلا أدنى جهد أو مشقة فقد كانت شخصيته خالية تماماً من التوتر والعنف)
وقد قال ذات مرة لاحد الصحفيين حين سأله عن أغبى سؤال؟ فرد جمال (سؤال السودان بلد عربي ام أفريقي)
فالدوش بينما يتحدث عن سعاد أيضاً يتحدث عن تاجوج في ملمح تعددي بلا اي نزع تسلطي
وقد بني هذه الرؤية الطيب صالح علي لسان مصطفى سعيد في موسم الهجرة الى الشمال (الي الذين ينظرون بعين واحدة، فيرون الأشياء، إما سوداء، وإما بيضاء)
وتمشي معاي
خُطانا الإلفَهْ والوحشَهْ
وتمشى معاي… وتْرُوحى
وتمشى معاي وسط روحى
ولا البلْقاهو بِعْرِفنى
ولا بعرِف معاكْ ..روحى
ويقول صاحب التداعيات الأستاذ يحيى فضل الله :  للدوش قطيعة نفسية مع هذه القصيدة (الحزن القديم) ويحكي في مقاله تداعيات التاكسي) كيف ترك الدوش التاكسي بعد إصرار سائقه على تشغيل الكاسيت الذي يخرج منه صوت وردي(… ولا لون الفرح انتي..) ،وهذه الإشارة تجعل من توتر وقلق الدوش في حديقة المبدعين الهائمين في ذاتهم مع التجاني يوسف بشير وغيره من الهاربين
ومابين الحزن القديم ورجعة البيت القديم – عند محمد الحسن سالم حميد – ثمة حنين الي ماضي يراه الاثنين معطون في الحنين والعدالة وطيب الأصل الذي بدلته قشور التدين الزائف والقصيدتين تبحران في نفس المضمون باختلاف تفاصيل السرد والرؤية
انا ماشي راجع لي بيوت
تفتح لي ادق او ما ادق
من غير تقول الزول منو
ولا حتي عل الداعي خير
لا مالك الجابتك شنو
و الاثنان وظفا موروث شعبي سوداني يستخدم للعن الدنيا (تف يادنيا) فاستخدمها حميد في قصيدة عم عبدالرحيم والدوش في سعاد
  وعند عمر الدوش الحزن القديم حوار داخلي بين الأمل واليأس وبرغم غلبة الأمل إذ أورده الدوش في نهاية القصيدة (طبول بتدق وفرح نور وجمل للحزن ممشى) فتظل النفس متنازعة بين هذا الأمل وذاك اليأس وهذه المغالطة هي من كوامن النفس البشرية بين مجمل التناقضات اليقين والتأمل/ الحب والكراهية/الوعي والغوغائية
و

يا تلاميذى العُزاز
خلِّى بينك وبين زميلك
زى مسافَهْ
قَدْر أيه؟
قَدْر المسافَهْ البين عيونى وبين سُعاد
قَدْرِ آلاف الفواجع فى انهيارات الحصاد
قدْرِ مسحوق الأنين فى تواريخ البعاد

انتهى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى