في العمق

مصعب قسم الله : حميدتي .. الجنرال في متاهته ( 3 )

السياسة السودانية رغم مساهمتها بشكل أساسي في كل ما كابدته البلاد من أزمات على مر التاريخ وحتى اليوم تظل ملعب مفتوح على كافة الإحتمالات، والسياسيون السودانيون رغم إخفاقهم المتواصل في إدارة الحكم وتحقيق مطالب الناس في معاشهم وخدماتهم وأمنهم وغيره إلا أنهم يجيدون بدهاء ولحد كبير الحفاظ على مصالحهم الشخصية والحزبية، وهم رغم خلافاتهم وتبايناتهم في الآراء والمواقف الا أنه دائما ما تجمعهم حالات التواطوء المصلحي وينجحون على الدوام في تجاوز ما يعترض سبلهم في الحفاظ على رأس مالهم الرمزي. والجنرال حميدتي حين يتقلب في توافقاته بين مختلف المواقف التحالفية مع الأفراد أو القوى السياسية السودانية فهو يعمق من أزمته أولاً ويراكم من رصيد اعدائه خاصة وان عوامل إنعدام الثقة فيه وفي قراراته وتصرفاته الخاطئة متوفر وبكثرة.

بنفس القدر فإن إحدى مناوراته التي ظهرت حديثاً بسعيه الواضح للتنصل من أزمات وإخفاقات المجلس العسكري الإنتقالي السابق – هذه المناورة – لن تنتج سوى إضعاف موقفه وتحجيم أحد أسانيد قوته الأساسية وهي كما أسلفنا قوة السلاح ومنطق القوة، فالدعم السريع لوحده وبعيداً عن تحالفه مع القوات المسلحة لن يصمد سياسياً أو عسكرياً ورغم كل مآسي وضعف القوات المسلحة السودانية ورغم إسهامها المباشر بشكل سلبي على كل تجليات الحياة بالبلاد الا أنه لا الشعب من جهة ولا القوى السياسية من جهة أخرى يمكن في أسوأ السيناريوهات أن ينحازوا لأي قوات أخرى على حساب القوات المسلحة، ولا أدرى من الذي أشار على الجنرال حميدتي بهذه المناورة الضارة جداً والتي تخصم منه ولا تضيف له جديداً حين صرح مؤخراً باتهامه لسلاح المدرعات بتحريك مدرعاته لقتل المتظاهرين، هذا الحديث ومحاولات تقزيم الجيش السوداني كحليف لحميدتي لن يمر مرور الكرام وسيؤثر بشكل مباشر على وضع حميدتي وقوات الدعم السريع ولو بعد حين، كما إنه مؤشر لا يقبل الجدل حول ضعف المعرفة والامكانيات السياسية والدبلوماسية التي يتمتع بها الجنرال حميدتي ومستشاروه.

في التحليل السياسي تعتبر مثل هذه التصريحات مفاتيح السر لقراءة المواقف وإتجاهات التحالفات السياسية والإئتلافات داخل مراكز القوى بالحكم، وهي بالإضافة لذلك تعكس مدى التخبط وعدم الإتزان الذي يحيط بالرجل في هذه المرحلة بالذات. لماذا هذه المرحلة بالذات ؟؟!!
أولاً: ظهور التسريبات الأخيرة والتي تشير لقيادات عسكرية باسمائها ورتبها العسكرية ومناصبها بقوات الدعم السريع وضلوعها المباشر في التخطيط وتنفيذ فض إعتصام القيادة العامة.
ثانياً: ظهور إسم الجنرال حميدتي نفسه ونائبه أخيه الجنرال عبدالرحيم في الإشراف والإلمام بكل تفاضيل فض الإعتصام في التسجيلات المسربة مؤخراً.
ثالثاً: تنامي الدعم الإقليمي والدولي الرسمي للبرهان عقب لقائه بنتنياهو وفتح ملف التطبيع بين السودان وإسرائيل، وبالمقابل نجاح د. حمدوك في الحصول على الدعم السياسي من مجلس الأمن القومي والموافقة على وضع السودان تحت الفصل السادس مما يعني وجود بعثة سياسية أممية بالبلاد لدعم الإنتقال السياسي والتحول الديمقراطي.
رابعاً: تشدد مواقف الحركات المسلحة في ملف التفاوض وعدم تحقيق أي تقدم ملموس كان يمكن أن يثمر عن عقد صفقة وتحالف دارفوري – دارفوري بين بعض الحركات المسلحة وقياداتها وبين حميدتي مما يعزز موقفه ويضيف إليه حلفاءاً جدد داخل هياكل الحكم الإنتقالي نتيجة لاتفاق السلام الذي كان يتطلع لتوقيعه.

جميع النقاط السابقة راكمت من الضغوط على الجنرال حميدتي وصنعت أحجيات جديدة تضاف لمتاهته الموجودة سلفاً منذ حكم النظام البائد وعقب فض اعتصام القيادة العامة. ففي النقطتين أولاً وثانياً يجد الجنرال نفسه وقواته مواجهون بوضع قانوني وأخلاقي معقد جداً، وإن صحة من كذب هذه التسريبات والتسجيلات تظل أمراً غير محسوم ولا يمكن البت فيه إلا بعد صدور التقرير القانوني للجنة التحقيق والتأكد من مدى واقعيته ومؤامته القانونية والإثباتات التي يقدمها إلا أن هذا ليس الجند الأساسي، فالتهمة إن ثبتت أو تم دحضها فيما يتعلق بمشاركة الجنرال وقواته في فض الإعتصام تبقى هذه التسريبات المسجلة في مركز الإستثمار السياسي ومراكمة الضغوط عليه لإضعاف موقفه ومركزه السياسي والعسكري والقانوني داخل تركيبة هياكل الحكم الإنتقالي وهو ما يصب تلقائياً في مصلحة المؤشر ثالثاً تنامي دعم البرهان وحمدوك كرؤوس للحكم الإنتقالي وتفعيل وضع العزل للجنرال حميدتي إن لم يكن عقب توقيع السلام فعلى الأقل عقب نهاية الفترة الإنتقالية وهو ما يهدد وضع الرجل ومستقبل تأثيره السياسي والعسكري وبالتالي حتى مصالحه ومكاسبه الإقتصادية.

هذه المتاهة التي يدور في فلكها الجنرال حميدتي والذي يبدو مؤخراً يعاني من الإضطراب والتخبط بسببها في المواقف والتصريحات، وهو لا يملك من الأدوات حالياً الكثير ليراوغ أو يناور به تمهيداً لكسب بعض النقاط وتحقيق مكاسب تحسب لتعزيز أوضاعه والإستمرار في بناء نفوذ ومركز قوة لا يقبل التجاوز والعزل حالياً ومستقبلاً خاصة بعد فشل الرجل ومستشاريه في مجاراة الأنشوطة السياسية التي تلتف حول رقبته بإحكام.
في ظل هذه التداعيات ما هي نتائج هذه المتاهة المعقدة التي يقبع داخلها الجنرال؟!!
وما هي مصلحة التغيير والإنتقال المدني في ظل الواقع السياسي الجديد الذي يتم تشكيله تحت كل هذه الفوضى المتعمدة؟؟؟!!!!
هذا ما سيتناوله المقال القادم والأخير

يتبع

زر الذهاب إلى الأعلى