مجرد رأي

أغاني الزنق والكتمات ما بين سندان أغنية الوسط والتمسك بذاكرة الإذاعة السودانية ومطرقة صراع المصالح والعداد

دائما ما تتأثر المجتمعات الإنسانية بمنحنى الصعود والتردي في مختلف المجالات الفاعلة داخلها، فمثلما يتأثر الإقتصاد مثلا بالتردي السياسي والإداري لأنظمة الحكم تتأثر الفنون أيضا بما يحيط بالمجتمع من أحداث وتغيرات سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية وثقافية وغيرها، فإما يصعد منحنى الفنون أو ينهار في تداول إنساني لا يستقر، ومن بين الفنون التي تتأثر فن الغناء خصوصا في ظل ظروف البلاد السياسية المقلقة التي ظلت تعاني منها لعدة عقود متتالية، ومثلما تفاعلت مختلف الفئات والقطاعات الشبابية والنسوية لسنين عددا في محاولة للتغيير السياسي وبناء نظام للحكم يمثل ويحقق تطلعات وآمال هذه الأجيال، فأيضا على صعيد الغناء إنتظمت الوسط الغنائي والموسيقى حركة تغيير وتمرد على الأنماط الغنائية السائدة والمسيطرة على آذان وذاكرة المستمع والجمهور السوداني، فظهرت أغاني الشباب الجديدة المعروفة بأغاني الزنق والكتمات بطابع لحني وموسيقي خاص بها يتمرد بشكل عنيف عن المسارات الموسيقية والجمل اللحنية التي كانت سائدة نتيجة لمدرسة الحقيبة وما توافر لها من أدوات قوة مادية عديدة جعلتها هي المدرسة الغنائية واللحنية والموسيقية السائدة، وذلك على الرغم من الثراء والتنوع الغنائي والموسيقي الكبير جدا التي تحتويه مختلف مناطق ومجتمعات السودان.

تحولت موسيقى وأداء الأغاني الشبابية من المسار التقليدي في ذاكرة الغناء السوداني لتبدأ بالإنضمام إلى مدارس جديدة في الموسيقى والإنفتاح على الأدوات الموسيقية الجديدة، فمع ثورة الإنترنت وإنتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وإنتهاء دور شركات الإنتاج الفني الإحتكارية، ومع ضعف نفوذ أجهزة الإعلام الموجهة من إذاعة وتلفزيون – كل هذه الظروف- أتاحت للفنون عامة والغناء بشكل خاص الفرصة للتجديد والتطور دون قيود وبحرية تامة وعرض منتجاتها على الجمهور مباشرة، وبالتالي المنافسة وفق شروط عادلة لتخرج عن كل ما هو نمطي وتقليدي، وتكسر قيود طالما تم بناء المجتمع على أساسها وأصبحت المحافظة عليها تعني محافظة الفئات المستفيدة منها على مصالحها لا غير، ليستغل الشباب منصات الميديا والنشر المستقلة للتعبير عن آرائهم في الكثير من قضايا وإهتمامات المجتمع كتعبير عن تمردهم وخروجهم عن المألوف من الغناء، والتمرد أيضا على العادات والتقاليد التي يرون إنها لا تناسب عالم اليوم.

خلقت هذه الموسيقى والنوع الغنائي فضاءً لها لتقدم للموسيقى السودانية فنًا جديدًا يتسم بالواقعية، بدون قيود أو شروط أو رقابة، ليتمردوا على كل ما كان نمطيًا وسائدًا في الفن، وكل ما هو سائد ونمطي ومعتاد في الواقع كذلك، وهذا هو السبب الأساسي في محاولة إضعاف دورها ووضعها تحت ميزان القيود الأخلاقية بوصفها ب ( الغناء الهابط).

وفي الحقيقة لا يوجد غناء هابط أو صاعد، فالغناء هو تعبير عن قضايا وهموم وحياة المجتمعات والبشر، وأينما وجدت حياة إنسانية فمن الطبيعي أن تتخذ أشكال عدة ومختلفة للتعبير عن نفسها، والفن عامة والغناء بشكل خاص هو حالة تعبير عن المجتمعات الإنسانية بكافة تفاصيلها حلوها ومرها، فإن كان التعبير الغنائي حسب وصف البعض هابطا فالحقيقة هي أن وصفهم بالهبوط حينها موجه للمجتمع وانسانه وليس لأحد أشكال التعبير عن ذلك. ولكن حقيقة الأمر هنا كما أسلفت بأنه لا يوجد فن أو غناء هابط وإنما يوجد صراع مصالح وتواطؤ ضد هذا النمط الغنائي لأسباب عديدة أهمها هو إستئثاره بأكبر قدر من التفاعل الجماهيري وبالتالي تفوقه على غيره من الأنماط الغنائية مما يعني تمدده ويقلل من فوائد الآخرين المالية ومكتسباتهم الإقتصادية بشكل يكاد يؤدي بها للانعدام هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو أيضا يهدد مزايا ومركز السلطة الإجتماعية والثقافية التي تم بناءه على عدة أساسات أحدها هو وسم الغناء السوداني ككل بأغنية الوسط، والمقصود بالسلطة الاجتماعية والثقافية هنا هو رأس المال الرمزي المستخدم تضليلا في فرض أحادية ثقافية تم تشكيل المجتمع على أساسها لعقود عددا.

أغاني الشباب وخاصة ما يعرف بأغاني الزنق والكتمات ليست مجرد ظاهرة ستزول بزوال المؤثر، بل هي في حقيقة الأمر تضيف لنفسها ولمدرستها الغنائية كل يوم الكثير من أدوات القوة من إيقاعات موسيقية وتعبير راقص من وحي المجتمعات المحلية السودانية وثقافاتها الأفريقية والعربية على حد سواء، وهذه هي مصادر قوتها الحقيقية لإتساقها مع طبيعة إنسان السودان وخلفيته الإجتماعية المتزاوجة بين الثقافات العربية والافريقية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى