مجرد رأي

وائل عبدالخالق يكتب : قراءات حول النزاعات القبلية بالسودان

يتحدر شطر كبير من السكان الذين يقطنون مناطق النزاعات المسلحة في السودان من أصول قبلية لها إمتداداتها الإقليمية. والقبيلة في السياق السوداني وفقا لما طالها من تغييرات في أنماطها ووظائفها أصبحت وحدة اجتماعية سياسية تقوم على العائلات الممتدة التي تستوطن أراض محددة، تكون عادة قرى بأكملها أو أحياء في المدينة وقد سعت العديد من القوى السياسية السودانية و القوى الإقليمية خاصة المتاخمة حدوديا لشرق وغرب السودان إلى إستقطاب الدعم القبلي لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، فتحالفت مع قادة القبائل وإستخدمت البنية القبلية لتشكيل وحدات مقاتلة.

بيد أن القبائل السودانية نفسها لم تعد موحدة داخلياً ومستقلة اجتماعيا، بعدما إرتبط دورها الإجتماعي على نحو وثيق بالسلطة السياسية. وهذه الحقيقة أعادت تعريف الطريقة التي ينتظم بموجبها السودانيون من ذوي الأصول القبلية سياسياً واجتماعياً. بمعنى أوضح: حين تنامت السلطة المركزية أضحى القادة القبليون على نحو متزايد وكلاء الدولة والناطقين بإسمها في سياق إدارتهم لمناطقهم. وهذا ما ضعضع مواقعهم أمام أبناء قبائلهم، وسمح للسلطة المركزية بالعزف على وتر التناقضات بينهم في خضم تنافسهم على نيل حظوتها ودعمها السياسي والمالي.

و يصطدم كل من يسعى إلى التعاطي مع التمثيل السياسي لقبيلة برمتها بمعضلة أن التركيبة القبلية تبدو ظاهرياً متماسكة، ربما كما كانت قبل أجيال حيث التراتبيات الرسمية لاتزال موجودة، وأعضاء العائلات الرئيسة يواصلون التربع على قمة الهرم الإجتماعي، ولكن الواقع أن العلاقات في داخل القبائل تغيرت كلّياً حين تقارنها بالحقب السابقة، إذ مضى ذلك الزمن الذي كان فيه شيخ قبيلة قادراً على إبرام الاتفاقات مع قوى خارجية نيابة عن كل أفراد قبيلته.
إضافة إلى ذلك، نزح العديد من مشايخ القبائل ومواطنيها عن أراضيهم، فيما أجبرت النزاعات المسلحة أبناء قبائلهم الذين بقوا في مناطقهم على التركيز على همومهم المحلية المباشرة المتعلقة بأمنهم وبالحفاظ على البقاء. كل هذا شجع العديد من الأطراف السياسية خاصة المرتبطة بالنظام السابق على التنافس في مجال التعاطي مع القبائل، وهكذا حين كان طرف ما يعزز أجندته مع شيخ قبيلة، كانت الأطراف التي تنافسه تعمد إلى الرد على ذلك بمناورة مضادة مع قبائل مجاورة، أو مع قادة آخرين في القبيلة نفسها. صحيح أن القبائل بالسودان ستبقى مؤثرة في الحياة السياسية الي أمد قادم، لكن من الخطورة غير محمودة العواقب أن تبقى تحت سطوة ونفوذ قوى من خارجها.

لقد عمد النظام السابق إلى ترسيخ مقاربة خاصة به فور أن سيطر على مقاليد الأمور بالبلاد، فألحق شيوخ القبائل في النظام السياسي الجديد وسمح لهم بممارسة درجة أكبر من النفوذ على المجتمعات المحلية ذات الأصول القبلية، كما أغدق عليهم مزايا معينة. وهو ما قاد الي إستغلال النظام السابق لقيمة دور الوساطة الذي تلعبه الإدارات الاهلية بين الدولة وبين السكان المحليين من ذوي الأصول القبلية، فدفعهم إلى التنافس للقيام بهذه المهمة. وهذا كان سبب عدم كون القبائل كتلاً متسقة ويعتريها غالباً التنافس على الزعامة. وعادة يكون لهذه الصراعات الداخلية على السلطة مضاعفات بعيدة المدى في المجالات السياسية وحتى الجيو- سياسية، وهي إحدي الأسباب المباشرة لإستمرار النزاعات والصراعات القبلية وتجددها خاصة التي تحدث الآن في مختلف مناطق البلاد.

وعلى الرغم من التحولات الكبرى التي طرأت على التشكيلات الاجتماعية القبلية في الثلاث عقود الاخيرة، لاتزال القواعد التقليدية تتحكم بعملية إختيار قيادة القبيلة. ففي داخل كل قبيلة تنتج دوماً سلالة عائلة معينة الزعيم أو الشيخ. وهذه السلالة التي تسمى بيت النظارة أو الشياخة، لها وضعية مرموقة داخل القبيلة، وأي فرد منها- بما في ذلك أشقاء الشيخ وأبناؤه وأولاد عمومته وأبناء الأخ والأخت- يمكن أن يصبح شيخ القبيلة عقب وفاة الشيخ. ومع ذلك، إستطاع النظام السابق إضعاف قدرة الإدارات الأهلية إلى حد كبير على ممارسة السيطرة على أعضاء قبائلهم، من خلال نثر بذور التنافس داخل العائلة، فكان يعمد إلى تعزيز أعضاء بيت نظارة أو مشيخة من خارج نظارة أو مشيخة شيخ القبيلة الرسمي، ويكون لهؤلاء الأعضاء علاقات شخصية وفي الغالب مالية مع النظام وأجهزته الأمنية في السنوات الأخيرة.

إن إنهيار سلطة النظام السابق بعد ثورة ديسمبر المجيدة مع وجود المجموعات المسلحة سواء التي تتبع للنظام السابق أو للمعارضة المسلحة على المستويات المحلية ينعكس بشكل مباشر على التباينات التي تخترق مصالح الأفراد والقبائل. ففي حين لم تدفع العلاقات والمصالح المشتركة الأطراف القبلية المتنازعة إلى إضفاء الإعتدال في سلوكياتها إستناداً إلى إنتمائها إلى الجهات الجغرافية نفسها، وحين فشلت هياكل الحكم الإنتقالي في إنجاز مسئوولية البناء الوطني عمدت بعض الأطراف من بقايا النظام السابق عبر تحالفاتها الداخلية والإقليمية إلي تأجيج الصراعات ذات الطابع القبلي في ظل تواطؤ واضح من أطراف داخل هياكل الحكم الإنتقالي نفسها.

لقد قوضت السلطات المركزية للنظام السابق والتنافس السياسي لتجيير القبائل، من خلال تحويل الادارات الاهلية إلى وسطاء مع السكان المحليين في العقود الأخيرة – قوضت- القاعدة التضامنية التي كان يستطيع الإدارات الأهلية إستحضارها لحل النزاعات. بدلاً من ذلك من الواضح أن شعور بعض من قادة القبائل بغياب الدولة حاليا أو السلطة القبلية الجازمة قادهم للمغامرة بإثارة الهويات المحلية تارة والعرقية تارة اخرى للتعبئة سعياً لتحقيق أهدافهم الخاصة التي حرموا منها بسقوط النظام البائد. وهذا سيكون عاملاً رئيسياً سيسمح لاحقاً بتوسيع إطار الجماعات المسلحة.

لقد تبخرت القيادة التقليدية القبلية في اللحظة نفسها التي كانت تشتد فيها الحاجة إليها. وهذا لأن عقوداً من التبعية للدولة جعلت الإدارات الأهلية عاجزة على لعب دورهم التاريخي كسلطات تتربع على مسؤولية مجتمعاتهم القبلية. وبالتالي أجبرت التنافسات الحاصلة والتعاون بين المجموعات المحلية المسلحة ذات الطابع القبلي المجتمعات المحلية على التركيز على مسألة البقاء والمصالح المادية والسيطرة على المجموعات القبلية الاخرى.

لقد ساعد نسبياً تشظي المجتمعات المحلية ذات الأصول القبلية بفعل النزاعات المسلحة -ساعد- القوى السياسية الجديدة على تنفيذ برامجها السياسية الخاصة في المناطق التي تشهد الصراعات القبلية بالبلاد، وقد سعت أطراف عدة إلى توسيع دائرة نفوذها في تلك المناطق لمنافسة النظام السابق، خاصة من الحركات المسلحة التي عملت على تجنيد أعضاء من القبائل للقتال إلى جانبها، وأيضاً لإصباغ الشرعية على أجنداتها السياسية. لكن الآليات التي وظفوها لهذا الغرض كانت هي نفس اليات النظام السابق إذ إعتمدوا على الشبكات القبلية المحلية لإدارة شؤون التنظيم. لكن زعماء المجتمعات المحلية القبلية لطالما إستخدموا هذه الأحزاب والحركات والجماعات المسلحة لتحقيق أغراضهم المادية والتموضع على نحو موات لهم في مقابل الأطراف القبلية الأخرى. وهكذا، ومرة أخرى تميط التحالفات المتنوعة التي يجد زعماء القبائل أنفسهم فيها اللثام عن مدى قدرة الهياكل القبلية على التأقلم مع الظروف السياسية المتقلبة. كما أنها تبرز أيضاً مدى عبث المحاولات لتشييد صرح ترتيبات سياسية ذات ديمومة تكون القبائل هي حجر الزاوية فيها.

تتميز الصراعات القبلية بالبلاد بالطبيعة المحلية إلى حد كبير للنزاع، على عكس التطلعات الوطنية التي تمحورت حولها ثورة ديسمبر المجيدة. ثمة العديد من الأجندات السياسية المتنافسة في المناطق التي تقطنها القبائل. وعلى الرغم من أن العديد من الجماعات المسلحة لجأت إلى اللغة والرموز القبلية لبناء علاقاتها المحلية، لم يتمكن أي لاعب سياسي من حشد مجموعات واسعة من قبيلة ما على أساس هويتها القبلية. علاوة على ذلك كانت القبائل عاجزة عن الحيلولة دون سعي قوى خارجية لفرض مشاريعها السياسية أو أجنداتها العسكرية في معاقلها والسبب في ذلك يعزى إلى التغيير الذي حدث في طبيعة القبيلة ووظيفتها بإعتبارها وحدة إجتماعية سياسية، بعدما تهاوت هياكل سلطة الإدارات الأهلية خلال العقود التي فرضت فيها الحكومات المركزية نفسها على القبائل.

إن ما تبقى من القبيلة اليوم في السودان ليس سوى إرث تاريخي، وهو مفهوم التنظيم الاجتماعي الهرمي الذي تتربع على رأسه بيوتات الادارات الاهلية. ويبقى الدور التاريخي الذي تلعبه هذه البيوتات مهماً بالنسبة إلى القبيلة نفسها. ونظراً إلى أن بنية القبيلة التقليدية تحتفظ بالقدرة على إستنهاض التضامن في أوساط أفراد القبيلة، تعتبر الادارة الأهلية هي الدينمو المحرك لهذا التضامن. وعلى الرغم من أن سنوات من الحرب والدمار لن تمحو هذا الإرث، إلا أنها أضافت في مناطق النزاعات القبلية والمسلحة مستوى جديداً من عدم اليقين بالنسبة إلى القبائل وأبناءها خاصة فيما يتعلق بالعوامل الثقافية والهوياتية الناتجة من خطاب النظام السابق السياسي وترجمته العسكرية على أرض الواقع.

نواصل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى