القصة ومافيها

النور عادل يكتب : بهاء الدين وآخرون ومن؟

سوريا، واليمن، والعراق، ومن قبلهم الصومال، وأفغانستان، كل هذه دول قبل سنوات قليلة، استخفت بالقانون، على المستوى الرسمي، فباتت القوات النظامية هي الخصم والحكم والجلاد، سلحت الدولة كل موالي، وعاقبت كل معارض، فجرت مؤسسات الدولة في العقوبة، وطرائق التنفيذ، من سوريا الأسد إلى أفغانستان كرزاي وسلفه المنسي، القاسم المشترك بين هذه الدول، هو شيوع قانون الغابة، وفقدت الدولة واجهزتها الرسمية مكانتها الدستورية وشرعتها القانونية، وقبلها فقدت صورتها الذهنية لدى عامة الناس، من كونها حامية راعية، لكونها قاتلة مجرمة. فكيف هو حال هذه الدول الان؟
إن جريمة اغتيال الشهيد بهاء نوري – تقبله الله في عليين- وقبله شهداء ما تزال قضاياهم لم تزل ذكراهم حية، مدعاة لطرح الاسئلة، والتذكير والتنبيه، لمن يتولون أمرنا اليوم. قبل أن نصل لسيناريوهات الدول اعلاه، تلك الدول التي هزأت بالقانون، واستباحته، فكان أن هزأ العامة انفسهم في الاخير بالقانون وبأجهزته ووصل الحال إلى أن استباحوه واستباحوها، ففي تلك الدول لا يجرؤ شرطي على التجول آمنا في غير مناطقه وبين جماعته.
حين درسنا القانون في أول سنة، كنا ندرس مادة تسمى (مدخل القانون)، برغم صغر حجم الكتاب، وقلة الأبواب، الا ان هذه المادة كانت بمثابة جرعة وعي مركزية لا غنى لأي عامل، في حقل القانون عن الاطلاع عليها، وفهمها، ووعيها، والامتثال لمضمونها البسيط، وهو فهم القانون ومدى اهميته في المجتمع، والدولة، حتى لا تكون غابة، أو كيان مسخ بلا هوية، حتى لا تكون حظيرة يحكمها ثور وقطيع خراف، إن الفرق بين الانسان وبقية الحيوانات، هو في ما يسمى بالوعي وآلياته، ويشترك مع الحيوانات في الحاجات البيولوجية الجسدية العادية، الاكل، الشرب، الجنس، المكان الحيوي للحركة. الفرق في الوعي البشري، والغريزة الحيوانية، لكن مؤسف أننا في بلد تغلب فيه الغريزة على الوعي، والا ما تفسيركم دام فضلكم، لان يقتل بهاءالدين في التحقيق؟ ومن يحقق معه؟ وبأي صفة؟ وتلك الأسئلة المزجاة في اعمدة الكتاب من يومين، بأي فهم أو تفسير يقتل شاب متهم في سرقة سيارة؟! يعلم راعي الضأن في بلادي أن سمعة مباني المباحث الفيدرالية في الخرطوم هي الاوسخ ما تكون، برغم أنه المفروض العكس، يعلم اي مواطن بسيط أن اقسام الشرطة في هذا البلد كلها، هي أقل من أن توصف بالقانونية، بدءا من محل الاحتجاز مرورا بالتحري، اذكر ذات مرة أنني كنت متهما في قضية قبل سنوات، اضطررت لأن أدفع للتحري حتى يتحرى معي بعد ثلاثة أيام احتجاز، ولا اذكر حتى ان هناك وكيل نيابة قد رأيته. يا للسخرية المبكية والله.

إن تكرار حوادث اغتيال، وقتل وهدر دماء الناس عامة، والثوار خاصة، في بلاد الهدر كما يسميها الدكتور مصطفى حجازي قي سفره القيم، (الإنسان المهدور)، هي دليل معنوي قوي جدا، أن الاجهزة النظامية عندنا، لا علاقة لها بالقانون وروحه لا من قريب ولا من بعيد، ولو احسنا الظن، فإن هذه الاجهزة والقوات، هي نفس جماعات الفتوة  والبلطجة، وفرق الحشاشين التي قرأنا عنها في التاريخ، هي نفس جماعات العرب الصعاليك، والباذنقر المأجورين، هي أشبه ما تكون بفرسان المعبد، وجماعات الياكوزا والمافيات العالمية، فقط تطورت هذه الجماعات وفق آليات العولمة، والنظم ما بعد الاستعمارية، وقننت وضعها في شكل رسمي، وتراتبية عسكرية، مسنودة لنصوص وقوانين دولها. والا ما تفسير أن اعتقال بهاء الدين واخفاءه؟ صاحب الحق والقانون لا يخاف، لا يخشى أحدا، لكن من يتحرى السرية والخفية، فهو الجبان الخائف من أمره يفتضح. لذلك يرى العبدلله منذ فترك أن لافرق كبير بين الجماعات الارهابية المسلحة، وبين جماعات الدولة واجزتها الموصوفة اجرائيا بالقانون، فكلاهما يخاف العلانية، وكلاهما لا يثق في نفسه وفعله وأمره.

ولك أن تقارن بين هذه الاجهزة المختلفة مثلا – لا نعرف عددها بالطبع- ونظيراتها في اي بلد متقدم – جدلا- تجد فروقات واضحة في درجة الوعي والفهم، فمثلا في امريكا على رغم كل شيء، هناك برتوكول لحظة الاعتقال يسمعونك اياه (انت رهن الاعتقال، من حقك أن توكل محامي، وان لم تستطع فالمحكمة ستوكل لك واحد، واي كلام تقوله الان قد يحسب عليك في المحاكمة). ثم تركب في خلفية السيارة يراقبك الناس، وربما كاميرات هنا وهناك واعلاميين حتى. تخيل؟!
بالطبع انت الان تفكر وتتخيل طريقة الاعتقالات عندنا، ولا حولا وقوة الا بالله (بس).
رسالتي لهذه الحكومة، والمسؤولين في كل المستويات، مدنيين وعسكريين، وحتى لأولئك القتلة المأمورين بالتنفيذ وهم اخس واحط من أن يفهموا الخطاب، ولكن معذرة إلى ربك.. إن لم تتداركوا هذا الوضع الكارثي بكل ما تحمله مفردة كارثة من معنى وثقل وخطورة، فكونوا على يقين أن سنن التاريخ لا تحابي احدا، سيتحول السودان إلى نموذج لن اقول مثل تلك الدول، لا، بل أشد قتامة، وانتم تعلمون يقينا أننا نسيج مختلف من الرعونة وفورة الغضب والحمية والعصبية.

أقل ما سيحدث مستقبلا اذا استمر الوضع كالتالي:
سيسقط القانون في نفوس الناس، وسيأخذ كل أحد حقه بيده، وأعتقد ان كان هنا عقلاء، رجال دولة، مهنيين، لراجعوا ملفات النظاميين الذين قتلوا بأبشع الصور، بعد أن هدرت صورتهم النفسية لدى الجناة المواطنين. هذا غير الذين ماتوا في ظروف غامضة!
من يعتقل ويخفي المواطنين اليوم، غدا يعتقل ويحاكم، وتتخفف الدولة من حمله، ووزره، وقتلة الشهيد احمد الخير، والشهيد حنفي، وقاتل الشهيد محجوب، كلهم لحظتها كانوا آمنين واثقين مزهوين بالسلطة، اين هم الآن؟!
اذا انفتح باب الفتن، والدماء، لن ينجو حتى رجل المرور العادي، غير الجنائي، من النقمة، وشاهدنا في دول عديدة، كيف ينتقم اليائسون، والمغاضبين، لن ينجو اي فرد يرتدي زيا رسميا، خاصة أولئك الذين لا يعرفون عادات الناس ونفسياتهم، ومشاربهم.
سيتعرق السودان، ويتصومل، ويتسورن، ويتأفغن، وعندها سيكون لكل مجموعة معتقلاتها، ومراكز احتجازها، وستنفرط حبات العقد، على الجميع، فالسودان واسع، متنوع، متناقض، وساخن طوال العام حتى شتاءه ساخن.
أدركوا هذا البلد، او ما تبقى منه، أعيدوا تدريس القانون، وعلومه، ومن قبل ازرعوا في نفوس افرادكم النظاميين معنى حرمة النفس البشرية، عظموا دماء الخالق، وراعوا حرمتها، فكل قطرة دم حرام تنزل لعنتها على هذه الأرض قبل أن تجف، وينادى عليها:
لأنصرنك ولو بعد حين.
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى