تقارير سياسية

مليونية 19 ديسمبر..
أسرار النجاح تكشف عبقرية الوصول لرؤية سياسية جديدة !!

الخرطوم: عبد الناصر الحاج

منذ مساء أمس الأول، وطيلة نهار الأمس، لم تستطع منصات التواصل الاجتماعي في السودان، وكثير من المنصات الإعلامية العربية، الانفكاك من حالة الانبهار والإعجاب بقدرة الثوار السودانيين في تنظيم صفوفهم وتسخير الجهود الكبيرة المبذولة في اتجاه المواصلة في حراكهم الثوري تنفيذاً لجداولهم الثورية الموضوعة سابقاً، تنفيذاً دقيقاً وحصيفاً وملتزماً بكل جملة وحرف في خطة الميدان الثوري، وأثبتت لجان المقاومة السودانية علو كعبها في تشكيل الواقع السياسي واختراق المشهد الانتقالي، للدرجة التي باتت هي المتحكم الأول والأخير في تحديد وجهة الدولة السودانية، مهما كانت طبيعة الاجراءات والقرارات التي تتخذها السلطات، ومهما كانت هذه الاجراءات محمية بالقوانين والجيوش والقوات الأمنية وغيرها، فما سبيل لاستقرار في الحكم دون رضا لجان المقاومة، ولا سبيل لوفاق وطني دون أن يمر عبر بوابتهم، بل ليس بالإمكان أن يحدد السياسيين معايير صعودهم أو هبوطهم أوساط الرأي العام الشعبي دون أن تكون لجان المقاومة هي ذات القناة التي تمر بها أقوال وأفعال ومواقف السياسيين لتصنيفها أو (فلترتها) ثم مطابقتها مع معايير الثورة السودانية التي يتمسكون بأهدافها وغاياتها دون تنازل أو استسلام لأية واقع جديد مغاير لتطلعاتهم وأحلامهم ، وحين رفع الثوار سقوفات حراكهم الثوري في 19 ديسمبر، أكدوا فيه بأنهم سوف يدخلون القصر الرئاسي مهما كانت أدوات القمع، وبالفعل نجح الثوار في الدخول لساحة القصر ولأول مرة منذ تاريخ الحراك الثوري السابق ضد البشير واللحاق في عهد الفترة الانتقالية.

(1) حراك 19 ديسمبر..
لماذا جاء مميزاً ومدهشاً وحافلاً بالنصر؟

في لحظة تاريخية فارقة ، تمت إعادة الثورة إلى الشوارع، بعد أن اختفت مواكب الثوار لفترة طويلة منذ توقيع سلام جوبا وتشكيل الحكومة الانتقالية بنسختها الأخيرة، لم يكن الغياب وفقاً لمراقبين هو بسبب اقتراب الحكومة من غايات الثورة التي يرفعها الثوار دائماً في مواكبهم، ولكن كان الغياب بسبب أن النسخة الحكومية الأخيرة هو أقصى ما يمكن أن تحققه قوى الثورة الممثلة بالحرية والتغيير وأطراف العملية السلمية، وبالطبع حققت الحكومة اختراقات مهمة في صعيد عودة السودان للأسرة الدولية السلام في عدة مناطق، وفيما يتعلق بالإجراءات الاقتصادية التي أفضت إلى رفع العقوبات الاقتصادية والاجتهاد الدولي لإعفاء الديون الخارجية التي ظلت مثل عقبة شاهقة أمام استقرار الدولة السودانية من ناحية اقتصادية وسياسية واجتماعية. بيد لجان المقاومة تحديداً عادت للشارع منذ بداية تدهور العلاقة بين المكون العسكري والمدني أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في سبتمبر الماضي، ولكن بمجرد قيام المكون العسكري بتلك الاجراءات الانقلابية على حكومة الفترة الانتقالية وإبعاد المكون المدني منها في الـ25 من أكتوبر، قررت لجان المقاومة الدخول في مناهضة قرارات البرهان، وفي سبيل ذلك اجتهدت لجان المقاومة في التحشيد الشعبي ضد السلطة القائمة الآن، وبذلت مجهوداً مُقدراً كلفها تضحيات ثمينة حيث أحصت لجنة أطباء السودان المركزية ما لا يقل عن سقوط 45 شهيداً ومئات المصابين خلال الاحتجاجات الأخيرة منذ الانقلاب، وسيرت لجان المقاومة عدداً من المليونيات التي لاقت ترويجاً كبيراً على منصات إعلامية عربية للدرجة التي جعلت السودان حاضراً وبشكلٍ يومي في نشرات الأخبار العربية والاقليمية والدولية، وفي ذكرى الثورة السودانية في 19 ديسمبر، تم التحضير لمليونية ضخمة رسمت لجان المقاومة مساراتها كلها تتجه نحو القصر الرئاسي في الخرطوم، وبالفعل نجحت لجان المقاومة في ذلك رغم أن السلطات اتبعت عدد من الإجراءات الاحترازية الأمنية مثل إغلاق الكباري وإغلاق بعض الطرق الرئيسية في الخرطوم والتي تقود لمقر القيادة العامة للجيش أو تلك التي تقود مباشرة للقصر الجمهوري، ورغماً عن ذلك نجح الثوار في تحشيد هو الأكبر منذ وقوع الانقلاب، ونجحت اللجان الميدانية في قيادة المواكب نحو القصر إلى أن تم دخول ساحاته الرسمية، وكذلك نجحت مواكب الخرطوم بحري وأمدرمان في تشكيل ضغط جماهيري عالٍ على حراسات الكباري، وهو الأمر الذي انتهى لفتح الكباري أمام الحشود، والتحمت الحشود مع مواكب الخرطوم عند القصر، وحقق الوصول للقصر وبحسب نشطاء فتحاً عظيماً للحراك الثوري الذي تقوده لجان المقاومة، حيث كان الوصول إلى ساحات القصر أمراً عصياً في السابق ومنذ عهد البشير، إلا أن لجان المقاومة برهنت فعلياً على أنها هي التي تمتلك الإرادة الثورية الجبارة وهي الأكثر تنظيماً وأكثر تماسكاً وهي الواجهات الجماهيرية التي يصعب اختراقها من قبل عناصر الثورة المُضادة .

(2) رغم الوصول إلى ساحة القصر..
لجان المقاومة لم تنجح في إسقاط الحكومة !!

بالطبع لم تكن لجان المقاومة تقول أنها بمجرد وصولها للقصر فإنها سوف تسقط الحكومة، بل كانت بيانات لجان المقاومة تحدد نصاً بأن وصول القصر ليست سدرة منتهاها وهو درجة في سلالم الوصول إلى غاياتها التي تعبر عنها دوماً بقيام حكومة مدنية كاملة وأن يخرج العسكر من السياسية وينصرف لأدواره الدستورية في حماية أمن البلاد والدستور والاستقرار. وفي حراك الـ19 من ديسمبر عندما بلغ الثوار محيط القصر ارتفعت طموحات قطاعات واسعة من السودانيين وبالأخص القوى السياسية التي أعلنت مناهضة الانقلاب، وظنوا جميعهم بأن الحكومة قد أوشكت على السقوط، إلا أن السلطات باغتت المتجمهرين في محيط القصر بوابل من الغاز المسيل للدموع ومما أدى لفض التجمهر ، وعاد الثوار إلى بيوتهم يعتريهم فخراً كبيراً بأنهم حققوا غاية ذروة حراكهم الثوري وأثبتوا فعلياً بأنهم قادرون على الوصول إلى القصر الرئاسي دون الحاجة إلى قيادة سياسية موحدة في إعلان سياسي مثلما حدث سابقاً في عهد البشير عبر تحالف إعلان الحرية والتغيير، ورغماً عن هذا النصر الثوري، إلا أن أصوات كثيرة ارتفعت بالتساؤل عن ما الذي تحقق رغماً عن كل الدماء والبسالات وعبقرية التنظيم والتحشيد ؟ وهل سيتمر الحراك الثوري هكذا كراً وفراً وإصابات دون الوصول إلى نهاية منطقية؟ وهل ستظل لجان المقاومة تقود الشارع وبينها وبين القوى السياسية جفوة وبلا رؤية مشتركة؟ إلا أن عدد من أعضاء لجان المقاومة ظلوا يردون على هذه التساؤلات بأنهم يعكفون على وضع رؤية سياسية وخارطة طريق ينتظرون الفراغ منها ومن ثم عرضها للقوى السياسية والرأي العام، وبالمقابل يرى عدد من المحللين السياسيين بأن لجان المقاومة أوفت بما لديها من جعل الشارع حياً وأن تكون جذوة الثورة متقدة ولا تنطفئ، بيد أن المحللين يرون أن الشارع السياسي الآن يفتقد القيادة السياسية الموحدة والمتفق عليها من قبل لجان المقاومة، وأن يكون البديل جاهزاً في حال نجح الضغط الجماهيري في تغيير السلطة القائمة الآن.

(3) ذروة الحراك الثوري..
بيئة خصبة لميلاد الجبهة الشعبية العريضة

في المقابل يرى سياسيون وأكاديميون أن حراك الـ19 من ديسمبر حقق اختراقات هائلة فيما يتعلق بإمتلاك الشارع لأدوات مقاومة جماهيرية قوية لا تضعف ولا تلين وعصية على الانقسامات والابتزاز، وأضافوا في عدد من المنصات الإعلامية التي رصدتها (الجريدة) بأن بلوغ الحراك الثوري لهذه الدرجة هو في حد ذاته شيئاً جديداً يكشف عن مدى العبقرية التي تكتنف نشاط لجان المقاومة، وهو ذات الأمر الذي جعل البيئة الآن خصبة لميلاد أكبر جبهة شعبية عريضة للمقاومة التي تسعى لاستعادة الدولة السودانية ومن ثم استعادة بنائها على أسس قومية جديدة، وأن الطريق إلى ذلك يحتاج صبراً دؤوباً وينبغي أن لا يغرق في محيط التفاصيل الدقيقة والاستعجال الذي أفرز في الماضي تشوهاً بالغاً في تجربة الحرية والتغيير التي ضمت بداخلها عدد كبير من التكتلات التي لا تؤمن بضرورة التحول المدني الديمقراطي ولا تجد شعارات الثورة اهتماماً كافياً بداخل مؤسساتها، وبحسب رؤية لجان المقاومة فإن معالجة القصور في تلك التجربة السابقة لن يأتي إلا في حال أضحت القوى الثورية الحية هي صاحبة المشروع والمصلحة من التغيير، وأن الوصول إلى ذلك لن يكون إلا عبر البيان العملي والواقعي بأن تلك القوى هي من تمتلك الشارع وتمتلك أدوات المقاومة وتستطيع أن تبلغ ذروة الحراك الثوري دون حاجة إلى قيادة سياسية تضع السلطة نصب عينيها ولا تلتفت إلى القيمة التي قامت لأجلها الثورة من الأساس، وبهذا الافتراض يشرح لجان المقاومة الآن رؤيتهم السياسية القائمة على ضرورة تخليق مناخ ثوري صحيح يجذب إليه كل المؤمنين بضرورة التغيير وعبر التوافق على ميثاق وطني واحد يصعب النكوص منه مرة أخرى عندما تستكمل هياكل السلطة الانتقالية ويصبح برلمان هذه السلطة هو صاحب الامتياز الأول في توجيه صناعة القرارات وإجازتها، وأن يكون هذا البرلمان هو حصرياً على القوى التي بلغت بالحراك الثوري إلى غاياته وانجزت عبره التغيير المأمول.

نقلا عن صحيفة الجريدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى