القصة ومافيها

النور عادل يكتب : قراءة في فيلم

قراءة فيلم Into the wild

فيلم جميل عن شاب جامعي ذكي يغادر منزل أبويه بحثا عن حلمه المتمثل في العيش في البرية متحررا من كل قيود الحضارة المصنوعة بحسبه في القرن العشرين.
صانعوا الفيلم وهو عن قصة حقيقية لمغامر أمريكي (كريس ماكدونالدز) 196‪8 إلى 199‪3  أبدعوا في نقاش عدة ملفات هامة اليوم، العنف الأسري، التشرد، النظام، العائلة، الرجولة، الحكمة. كلا في فصل أو في خلال فصول، فطوال رحلته كان يحتك بمواقف، إلى أن التقى ب “ارون”  العجوز المتقاعد من الجيش ويدور بينهما نقاش يمثل نقاشا محترما عقلانيا بين الأجيال، جيل الحرب العالمية الثانية وجيل عصر الاتاري والسيقا المتأخر في أمريكا. فالعجوز مرتبط بالله وبالكنيسة ويحاول في حواره مع الشاب خلق مشتركات وبالفعل ينجح في تثبيت مركزية الرب دونا عن الكنيسة لكن كريس كان مؤمنا حد التطرف بمركزية الفرد، والمغامرة، وكانت السعادة عنده مختصرة في البرية، والموسيقى والكتب.
رسالة صانعوا الفيلم بالنسبة ليست في الحض على العزلة أو مدح البرية كما يبدو ظاهرا من الفيلم، لكن هناك رسالة مبطنة اشبه بالصفير الخافت لنقاش مركزية الفرد الغربي خلال الفترة من جيل الحرب الثانية إلى عصر الديجيتال. كيف تحولت الأسرة من رحمة إلى نقمة؟! وكيف صارت الكنيسة سجنا للحرية بدلا عن رحاب الملكوت؟! كيف تحول النظام إلى عبء ثقيل على الفرد بدلا عن رافعة للتقدم والازدهار؟! فنراه يدخل دار للرعاية الاجتماعية يتبع لإحدى الكنائس ويطلبون منه بطاقة هوية، لكنه كان بلا أي أوراق، ما جعله بعد تفكير يرفض منحة الكنيسة ويغار إلى محطة قطارات بحثا عن ملجأ فينال منه الحراس ضربا مبرحا، والحراس هنا يمثلون سطوة الدولة وصلفها إذ يقول له أحدهم (نحن السكة الحديد) ما جعل السكة نفسها تأخذ شكلا للدولة الحديثة اللئيمة.
يصر كريس على مواصلة رحلته إلى براري ألاسكا لكنه في طريقه يدون ما مر به، شغفه بأسرة تعيش في منزل مقطورة متحركة وحبه لابنتهم الشابة لكن عزمه على الرحيل يأد الحب في مكانه ويرحل. وهنا جدل هادئ بين الفردية الأنانية الدائرة في فلكها، وبين الحب الفطري باعتباره شركة وعلاقة متعدية بين شخصين قد تؤدي إلى إنجاب آخر وآخرين، وكيف تنتصر الافكار المجردة المتمردة الموغلة في عبادة الذات على الحياة الاجتماعية، وتقوم بتجاوز مؤسسة الأسرة والانجاب وقطع الرحم والاكتفاء بالذات هاديا ورفيق وكل شيء في طريق الحياة المادية.
تأتي اللحظة المفصلية التي يتعرف فيها كريس على حكمة الحياة، ويبكي حسرة وهو يحتضر بعد أن أكل من الجوع من نبتة برية سامة تتشابه مع أخرى مغذية، هنا يقع كريس في وهم المعرفة السطحية المتلقاة من الكتب فقط إذ كان يقرأ ويسير ويدون خبرته البدائية بالبرية.
في لحظة احتضاره يتسع مخيال المؤلف بناءا على ما قرأه واطلع عليه من مذكرات كريس الأصلية إذ يدخلنا في عقل كريس المتمرد على الحياة المنظمة وعلى الدولة ويرينا له وهو يحتضر مشتاقا لحضن والديه، كيف دون وهو يحتضر إيمانه المتأخر بأن الحب الحقيقي هو في مشاركة الآخرين السعادة.
كأن الفيلم صوت للحركة الاناركية الصاعدة في عموم أوربا وأمريكا، ويبدو انه ناقم على الديمقراطية الليبرالية الحديثة التي باتت تغلب مصالح نسبة الواحد بالمئة على البقية الغالبة المسحوقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى