عمر الدقير : حرب 15 أبريل هي أحد تجليات الأزمة الوطنية
كتب المهندس : عمر الدقير / رئيس حزب المؤتمر السوداني
حرب ١٥ أبريل هي أحد تجليات الأزمة الوطنية التي يعيشها السودان، وغنيٌّ عن القول أن هذه الأزمة لم تنبثق من لا شئ، بل هي حصادٌ لما ظل يجري في تربة واقعنا خلال الأعوام الغاربة من عمر الحكم الوطني التي ساد فيها نهج تكسير المفاتيح في غير أقفالها، واعْتُمِدَت خلالها وصفات وخيارات غير رشيدة تركت الأسئلة الكبرى يجرُّ بعضُها بعضاً بلا إجابات، وظل المسير دائرياً والخُطى لا تصل إلى أبواب.
مع استمرار الاضطراب في مسيرة الحكم الوطنى قفز نظام “الانقاذ” إلى السلطة من ظهور الدبابات عام ٨٩ وحكم ثلاثين عام بثنائية الاستبداد والفساد .. كان من أكبر خطاياهُ العمل بصورة مباشرة عبر سياسات خرقاء لفصل الجنوب توهماً منه بأنه بذلك ينهي جدل التنوع والتعدد ويخلق له فضاءاً جغرافياً خالصاً يمارس فيه سلطانه وطغيانه باسم الرب، وبعد سقوطه بثورة ديسمبر المجيدة قرع أنصاره طبول هذه الحرب ظناً منهم أنها تحقق أحلاهم في العودة للسلطة.
في أحد اللقاءات الإعلامية مع المرحوم محمد إبراهيم نقد وصف انفصال الجنوب بأنه هزيمة للحركة الوطنية .. وبالمثل، لا نتردد في وصف وقوع الحرب الحالية – بعد ثورةٍ عظيمة توسط “السلام” شعارها الثلاثي الأشهر – بأنه هزيمة أخرى لعموم الحركة الوطنية والحركة السياسية على وجه الخصوص، ولكنّ التاريخ لم يكن لدى أي شعبٍ موسوماً بالانتصارات فقط، مثلما يندر في تاريخ الشعوب حدوث هزيمة كاملة وتراجع دائم .. فثمة شعوبٍ كثيرة أقعدتها الهزائم والتراجعات حيناً من الدهر، لكنها ما لبثت أن حوّلتها إلى روافع للانتصار والنهوض والتقدم، وذلك بعد تحقيق عدة شروط في مقدمتها مواجهة النفوس بالنقد الشجاع الأمين والاعتراف بالأخطاء والمراجعة العلمية لحيثيات الهزيمة والتراجع، بما يفضي لاستبدال المفاتيح القديمة التي لم تعد تصلح لفتح الأبواب الجديدة، والتوافق على مشروع وطني مستنير يستطيع مجادلة الواقع، المأزوم في كل جوانبه، ومنهج إدارة علمي نزيه وشفاف لشقِّ دروب النهضة وبناء دولة المواطنة الحديثة التي تسع جميع أهلها ويدافع عنها جيش مهني واحد يخضع لمؤسسات الحكم المدني الديموقراطي.
“هذه الحربُ وَثَنْ”، يقول الشاعر الباقي محمد الحسن حميد .. حصادها إزهاقٌ للأرواح وانتهاك للكرامة الانسانية وتشريدٌ ونزوح وتدميرٌ للممتلكات العامة والخاصة، ومع طالع كل شمسٍ عليها تزداد احتمالات تحوُّرِها لحربٍ أهلية أو تحويل السودان لساحة صراع بين قوى أجنبية تنزلق به إلى أتون الفوضى الشاملة وتمزيق كيانه الموحد، ولذلك من الطبيعي أن ينحاز الموقف الوطني والضمير الانساني لمطلب وقفها الفوري.
إنّ الأزمة التى تعيشها بلادنا، والتي تتجلى في هذه الحرب التى تفسد في أرضها وتهلك الحرث والنسل، تفرض على جميع القوى الوطنية – في الأحزاب السياسية وعموم الفضاء المدني – هجران المُطْلَقية ومزاعم احتكار الحقيقة وادِّعاء الانفراد بتمثيل الضمير الوطني والتحدث الحصري باسمه، لينفتح الطريق لتشكيل جبهة مدنية عريضة موحدة يقودها عقل وطني جماعي وتعمل على محاصرة الحرب ووقفها، وتُجَيِّر حراك المجتمع الدولي والاقليمي لتحقيق ذلك الهدف وفقاً للأجندة الوطنية، ومن ثم اشتقاق مسار سياسي سلمي يعالج مسببات الحرب وآثارها ويخاطب كل قضايا الأزمة ويضع البلاد على درب التحول المدني الديموقراطي لإنجاز مهمة البناء الوطني في كل فضاءات الواقع.
من منبر جدة إلى قمة دول الجوار بالقاهرة، مروراً بمبادرات الاتحاد الأفريقي والإيقاد، ظل السودانيون يأملون في حَلٍّ يطفئ نار الحرب، ولكن – مع أهمية مساندة المجتمع الدولي والاقليمي – يبقى الحل بأيدي السودانيين لا بأيدي سواهم .. وإذا كانت هذه الحرب تمثل أحد أعظم التحديات التي واجهت السودانيين خلال تاريخهم الحديث، فإنّ كتاب التاريخ يشهد على أنّ الشعوب لا تنتصر على التحديات العظيمة ولا تتجاوز الأزمات الكبرى إلا بعقلها الجماعي وإرادتها الموحدة .. وقَدْر ارتباط أمل الشعوب بالحاضر والمستقبل، فإنّ الاستغراق في الشجون الصغرى – أوان الأزمات الكبرى – والتخلِّي عن مسئولية الفعل الجماعي يعني ضياع الحاضر وموت المستقبل، وهذا ما وَعَتْهُ شعوبٌ كثيرة واجهت أزماتٍ كبرى في سياقاتٍ معقدة، لكنها ارتفعت إلى مستوى تحديات الأمل الذي راهنت عليه، بتماسك قواها الوطنية في جبهة عريضة رجّحت ميزان القوى لمصلحة الخروج إلى رحاب الحرية والسلام والعدالة والاستقرار وسائر شروط الوجود الكريم.
يعيش السودانيون لحظات الترقب والتوتر والقلق والخوف على الوطن من الانهيار الكامل .. يجب أن نُحْسِن التعلم من هذه التجربة القاسية ونجعلها فارقة بين الماضي، بكل ما كان فيه من مرارات وخيبات، وبين المستقبل المنشود الذي هو في نهاية المطاف حاصل جمع المُمْكِنات وليس مخبوءاً في جيوب بدلات الساسة أو تحت خوذات الجنرالات.
هذا وقت الاستجابة للتحديات الجسام والأسئلة البِكْر والأحلام المؤجلة .. ورغم الدم المسفوح والتشريد والنزوح والخراب والدمار، لن نقطع الأمل في بشائر الخيرات لشعبنا .. لدينا ما يُمكِّننا من النهوض وتعويض ما فات بشرط أن نستردّ أنفسنا ونستلهم روح ثورة ديسمبر المجيدة وندرأ التذرر الاجتماعي والتشرذم السياسي – على خلفية قضايا هامشية وحسابات صغيرة – ونعتصم بوحدتنا ونُظْهِر أفضل ما فينا لخلاص وطننا من ويلات الحرب وتداعياتها.
١٧ يوليو ٢٠٢٣