السودان اليوم

الواقع السياسي السوداني .. مقاربة تحليلية 1- 3

يُعرف عالمي الإجتماع زيغموند باومان وكارلو بوردوني في كتابهما ” حالة الأزمة ” – يعرفان – الأزمة بأنها ” الولادة الجديدة التي تشير إلي نضج تجربة جديدة مما يؤدي إلي نقطة تحول ” ويؤكدان في الوقت نفسه أن ” الميل الطبيعي للتغيير هو الذي يهيء التغيرات المستقبلية على أساس جيد “.
العلاقة بين الواقع المأزوم والتوقعات بنتائج التحولات أو التغيرات المستقبلية تبدو واضحة جداً في مفهوم الكتلة الديمقراطية عند غرامشي، حيث أن أزمة إيطاليا ما بين الحربين وانقسامها بين شمال صناعي مزدهر وجنوب ريفي متخلف في ذلك الوقت، كانت السبب الأساسي للفكر السياسي عند غرامشي الذي أراد خلق وحدة وطنية بين كل مكونات المجتمع المدني، بشكل يوحد كل قواه في كتلة واحدة تتجاوز كل التناقضات الإيديولوجية والتقسيمات الطبقية والحزبية في مواجهة الأزمة وخلق بنية جديدة لا تستبعد البنية القديمة.
الطريق نحو إستنهاض قدرة التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يحتاجه السودان كان وما يزال هو أحوج ما يكون الي مفهوم الكتلة الديمقراطية عند غرامشي التي تسعى إلى الحفاظ على وحدة البلاد والشعب والقيام بنهضة شاملة، كتلة تضم قوى التغيير والإصلاح في البلاد من مختلف المكونات السياسية والاجتماعية والشبابية والنسوية، وباختلاف منطلقاتهم الفكرية والايديولوجية وتمايزهم العرقي والثقافي. وذلك بإعتبار أن تجربة السودان منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا تثبت بما لا يدع مجال للشك أن مهام بناء الدولة الوطنية الحديثة والتحرر من التخلف وإقرار الديمقراطية وتحقيق تنمية مستدامة هي مهام لا يمكن لأي فصيل من فصائل القوى الوطنية القيام بها بمفرده مهما كانت منطلقاته الفكرية والنظرية والسياسية. وهنا برزت على الدوام ضرورة تشكيل تحالف وطني على نمط الكتلة التاريخية التي تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع والتي من مصلحتها التغيير في إتجاه تحقيق الأهداف الوطنية. ولضرورة نجاح هذا التحالف كان لا بد من التأكيد على أن هذه الكتلة لا يجب أن تكون مجرد تحالف بين أحزاب أو تحالفات سياسية بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف بما فيها السياسية ” تخبط وعجز قوى الحرية والتغيير نموذجاً “.
اليوم وبعد مرور عام على سقوط النظام البائد نتيجة لثورة ديسمبر المجيدة ما زال المشهد السياسي يبدو مترنحاً وعاجزاً عن التماسك والتقدم على طريق إنجاز أهداف الثورة وتحقيق متطلبات الاستقرار الاقتصادي والانتقال السلمي الديمقراطي، ورغم نجاح النخب السياسية إبان الثورة في إدارة خلافاتها تحت سقف تحالف قوى الحرية والتغيير، ورغم توافق المجتمعين السياسي والمدني في العمل سوياً وإنجاح مختلف محطات الثورة مما جعل هذه التجربة فريدة ضمن سائر التجارب المحيطة بنا إقليميا ودوليا ووفر لها دعماً شعبياً غير مسبوق، والسبب في ذلك أنها جمعت طيفا واسعاً ومتنوعاً من السودانيين عبر مختلف المكونات المهنية والشبابية والنسوية والسياسية أيضاً. إن بناء حالة التوافق بين السودانيين من مختلف التيارات الأيديولوجية من إسلاميين وقوميين وليبراليين ويساريين وحركات مسلحة ومجموعات كفاءات مستقلّة في تجربة ثورة ديسمبر المجيدة تعتبر تجربة نموذجية في وقت عانت فيه البلاد لأمد طويل من قبول مجرد فكرة الجلوس بين الفرقاء فيه على طاولة المفاوضات ناهيك عن العمل المشترك والتضحيات الجسيمة التي قدمها شباب السودان فداءاً لإستمرار هذه الكتلة الديمقراطية وإنجاز التغيير وتحقيق الحلم ببناء وطن مستقر ومزدهر ويسع الجميع.
رغم كل هذا إلا أن النموذج التقليدي للواقع السياسي السوداني يبدو أنه قد إنتصر في خاتمة المطاف، هذا النموذج الذي تشكل وفق مفاهيم تتخذ من الأيديولوجيا معياراً حاسماً في رسم المواقف والآراء، وهو ما رسم ملامح الواقع السياسي تاريخياً كواقع قائم على التضاد منهجاً ومضموناً، خطاباً وممارسة، حتى أصبحت هوية معظم الأحزاب السياسية تُستمد من رفضها ومحاربتها للآخر والإدعاء بأنها الواحد الصحيح. من هنا كان المدخل للاقصاء داخل الكتلة الديمقراطية ” قوى الحرية والتغيير “، ف تحت دعاوى التأمين بدأ الإقصاء لمعظم التنظيمات والحركات الشبابية والنسوية كخطوة أولى أعقبها إقصاء تحالف ” الجبهة الثورية ” ثم بدأت تتسع دائرة التضاد والمواقف الحدية من الجميع تجاه الجميع مما أفرغ كافة منجزات التغيير من محتواها. ما يحدث الآن هو ببساطة المنتج الحتمي للبراديغم التقليدي في العقل والفعل السياسي السوداني القائم على الإرتهان لمنطق التنافر ومفهوم تطهير الأنا وتأثيم الآخرضمن ثقافة التخوين. هذا التوجه لا يمكن أن يسمح بإستمرار ونجاح نموذج الكتلة الديمقراطية في إنجاز أهدافها الذي يقوم في الأساس على قبول الآخر بما يوفّره من مساحات للتفاعل والتواصل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى