السودان اليوم

د. عبدالله حمدوك يكسب الرهان بالحكمة والدهاء

 

في الزمن السمح في السودان كانت الحبوبات بيحكن حكاوي للأطفال وبيساهموا في تربيتهم بذكاء وحصافة وبلغة بسيطة ومفهومة لهم حسب أعمار الأطفال وقدرات إستيعابهم.
إحدى هذه الأحاجي السودانية كانت قصه فار متزوج من خنفسانه ( الخنفساء )، القصه بتقول في يوم ما ذهبت الخنفساء للبحر لتغسل شملتها ( الشملة هي الغطاء المستخدم للدخان عند النساء السودانيات) وفجأه هبت هبوب شديدة شالت الشمله والخنفسانه ماسكه فيها ورمتها في جزيره في نص البحر، فإحتارت الخنفسانه لكن فجاه جاء الصبي صاحب المخزن الساكنه فيهو الخنفسانه والفار وبقت تنادي ( هوي يا داك الصبي أب عزبه يا طويل الرقبه قول لي سيدي أب ضنبه ست النسا في غلبه ).. الصبي قعد يتلفت وماشايف أي حاجة، لما رجع البيت قال لي أُمه: الليله يا أمي بسمع هتاف في نص البحر بقول لي ( هوي يا داك الصبي أب عزبه يا طويل الرقبه قول لي سيدي أب ضنبه ست النسا في غلبه ).. سمعو الفار وهو في الجحر وقال مستنكر ( ها اليسوانا والما يسوانا يتكلم في نسوانا ).. وجري للبحر وعام لحدي الجزيره ورجع وهو شايل مرتو الخنفسانه في ضهرو ولما قربو للبيت شافت أولادا قاعدين جنب بعض قالت لي الفار: شوف أولادنا في الحيط زي اللولي في الخيط، ضحك الفار مبسوط ونفخ صدرو وقال ليها ( صلي علي مولاك يا نور الهدي اصلو جنا الملاك كده ).

في خضم زحمة الأحداث التي تمر بالعالم ككل بسبب فايروس كورونا، وخلال إنشغال الناس في السودان بأخبار كورونا والضوائق المعيشية وحلول شهر رمضان مرت علينا عدة أحداث دون أن ينتبه لها أحد رغم أنها ترتبط بحاضر ومستقبل قضايا التغيير والانتقال والتحول الديمقراطي.

وجد حدث تجميد حزب الأمة القومي لعضويته بقوى الحرية والتغيير حظه من الإهتمام بشكل كبير جداً ما بين متفق ومختلف، ونشطت عدة جهات كعادتها للنيل من حزب الأمة القومي ورئيسه الأستاذ الصادق المهدي. هذه الجهات معروفة وحملاتها المتكررة لطالما كانت وما زالت تتسق مع نمط تفكيرها وقناعاتها النظرية والايديولوجية، وهي جهات واعية تماماً لما تريد وتعمل على تنفيذ تكتيكاتها من أجل تعميق تناقض الواقع وعدم الوصول لحلول في مختلف القضايا خاصة المعيشية المرتبطة بحياة الناس مما يقود تلقائياً حسب مفهومهم للخصم من رصيد الدعم والإلتفاف حول الحكومة الإنتقالية الحالية التي سبق وأن صنفوها كإمتداد للرأسمالية والنيوليبرالية العالمية.

تزامن مع هذا الحدث عدة أحداث أخرى يمكن حصرها في الآتي:
1. موافقة مجلس الأمن على توفير الدعم الأممي للحكومة الإنتقالية بالسودان.
2. تصريحات قيادات الجبهة الثورية عن تقدم في المفاوضات ولم يبقى الا القليل.
3. زيارة رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك لرئيس حزب الأمة القومي الأستاذ الصادق المهدي في منزله.

المتابع للواقع السياسي السوداني سيدرك لا محالة مدى إرتباط هذه الأحداث ببعضها البعض، ويبدو أن حزب الأمة ورئيسه الأستاذ الصادق المهدي هم الأكثر قدرة ودراية بأصول اللعبة والتحولات المتوقعة في المعادلة السياسية القادمة والتي تستدعي وجود فاعلين سياسيين جدد.
أضف إلي ذلك إستباق نائب رئيس مجلس السيادة حميدتي للجميع بتقوية مواقعه السياسية والعسكرية بل وحتى القبلية بعقد هدنة مع موسى هلال وما رشح في الأخبار عن ذلك، يُقرأ أيضاً من ضمن تجهيزاته للحفاظ على موقعه ضمن مراكز القوى داخل هياكل الحكم الانتقالي وتقويتها خاصة مع إعلان مجلس الأمن لموعد وصول البعثة الأممية الجديدة للسودان في شهر مايو المقبل.

تطورات الواقع الداخلية بتجميد حزب الأمة لعضويته بالحرية والتغيير مع تصريحات قادة الجبهة الثورية، إضافة الي المستجدات الدولية بقبول طلب الحكومة الانتقالية بتوفير الدعم الاممي وتحديد موعد وصول البعثة الأممية الجديدة يشير بوضوح إلي أن هناك سيناريو سياسي مرافق لتجهيز الواقع للمعادلة الجديدة، والتي يبدو أنها ستتجاوز الكثير من مكونات الحرية والتغيير إن لم تكن جميعها. كما ان التحركات المتسارعة داخل المكون العسكري أيضاً وآخرها تصريحات رئيس مجلس السيادة البرهان بوجود تدخلات لبعض الأحزاب السياسية ومحاولات للإستقطاب داخل الجيش تشير أيضاً إلي أن هناك تغيرات ستطال مراكز القوى داخله لحد ما وأن دور المكون العسكري في المعادلة الجديدة القادمة سيتم تفريغه من كل سيطرته التي بسطها على معظم هياكل ومؤسسات الحكم الانتقالي وهو ما يبدو أن رئيس الوزراء قد خطط وعمل له بتأني وإدراك.

في بواكير إنتصار ثورة ديسمبر المجيدة ورغم أن كل المؤشرات كانت وما زالت تجزم بصعوبة المهمة وإستحالة النجاح وفق محددات واقعنا السياسي والإقتصادي إلا أن د. عبدالله حمدوك تصدى للمهمة وقبل التحدي حين سمع وطنه يناديه: ( هوي يا داك الصبي أب عزبه يا طويل الرقبه قول لي سيدي أب ضنبه ست النسا في غلبه )، ثم ها هو ما زال مثابراً ومكافحاً يحمل هموم وواجبات الحكم على ظهره ويخاطب الشعب السوداني قائلاً: (صلي علي مولاك يا نور الهدي اصلو جنا الملاك كده ).

باختصار د. عبدالله حمدوك يكسب بالحكمة والدهاء، ويفرض إحداثيات سياسية جديدة كلياً في حقل يجيد هو التحرك فيه ويمتلك من الخبرة والتجربة ما يكفي ليضمن نجاحه دوناً عن غيره وهو حقل السياسة الدولية ومعايير النظام العالمي، ومرة أخرى يثبت للجميع بأنه رجل المرحلة إذا ما تم اعطاءه الفرصة الكافية للخروج بالبلاد من وهدتها بعيداً عن تحمل عجز وفشل المكونين المدني والعسكري اللذان أنتجا هذا الواقع المأزوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى