القصة ومافيها

النور عادل يكتب : الساحر السوداني رقم واحد بالعالم

نكتة قديمة تحكي أن طفلة جاءت لوالدها، موظف دولة بسيط، تطلب منه مبلغا من المال لتشاهد الساحر الزائر لمدرستها يوم غد.

أجلس الرجل ابنته في حجره وقال لها: ولماذا تدفعين لتشاهدي الساحر في المدرسة؟ انا راتبي الشهري خمسمائة جنيه، ادفع منها إيجار المنزل، والطعام، والعلاج، ومصاريف المدرسة، وشاي الصباح، وادفع في كل كشف مناسبة عائلية تخصني ووالدتك. ثم سأل الاب ابنته بحيرة: هل يستطيع أي ساحر أن يفعل مثلي؟!

لا زلت أذكر والذكرى طرية، طيبة، تسيل الدمع، وتكسر حدة الظرف وشدة اليومي، أذكر ذهابي كل صباح لقهوة سوق “الموردة” الامدرماني العتيق، اخذ قهوتي طازجة من سميي صاحب المحل بشوش صبوح وجهه متفائل، واتخير زاوية في مقاعد الحديد القديمة المقابلة لبعضها، تتيح لي مشاهدة لقطات من مسلسل الحياة الامدرمانية المتضامنة المتكافلة. ام درمان التي مهما كتب عنها لم توفى حقها من مداد، يحلو لسكانها مناداتها ب أم در أمان..هكذا مفصلة.

ناس من كل الطبقات، افندية، اساتذة أساس وثانوي، مثقفين يساريين وطائفيين ينتمون للحزبين الكبيرين(الأمة) و (الاتحادي) واساتذتي في الأساس المنتمين للسادة المتصوفة الادريسية الاحمدية بحي الموردة ويسكنون جوار المسجد. عمال وطلبة وسريحة وسكارى غوغائيين وفنانين وشعراء ومنتحلي صفة شعراء وكتاب وملحنين ومجانين ومجاذيب دراويش.
كلهم يقف أمام مصطبة العم النور، منهم من يمد يده بالمال ليأخذ طلبه، ومنهم من يمد يدا فارغة ليأخذ مجانا، وكلهم يأخذ ولا ترد يد قط.

اخرج إلى السوق مفعم بالمدائح النبوية التي يبثها الراديو القديم الوحيد في أم درمان الذي لا يزال يذكر بأول إرسال كان قبل نصف قرن لا يتعدى بضعة كيلومترات، الناس وجوهها ضاحكة، القفشات تنتشر مما كان في الليل، وبان أثره في الصباح، حوارات كرة القدم، تأخر فريق الموردة وتقدم الهلال، سطوع نجم المريخ، الدوري الإنجليزي، احاديث السياسة التي تبتدئ بلعن الإنقاذ ومتأسلميها وتنتهي بجرد حساباتها من كان فقيرا واغتنى ومن كان عائلا منهم واصبح الان مسؤول وبعامة الحكومة كانت سيئة الذكر…محلات السمك وتجهيزاتها المتسارعة لوجبة الإفطار وانتظار الزبائن الكبار، والمتشردين يلملمون بملل وبقية نوم في أعينهم كراتينهم وملاءاتهم يرحلون لمكان آخر دكان أو خور ليكملوا نومهم بعيدا من تحرش الناس وتسلط أصحاب الدكاكين.

كثيرا ما كنا نتساءل ونحن بعد في أول خطوات الحياة العملية بعد الجامعة كيف يعيش الناس؟ وكيف ربوننا آبائنا وأمهاتنا؟ فالمسافة ما بين الدخل عامة والمنصرف تحتاج لساحر يكسر قواعد الحساب بدلا عن إخراج ارنب من قبعته!
ما الإثارة في إخراج أرنب من قبعة إزاء خروج كل هذه النفوس الوادعة السمراء الداكنة كل صباح خماسا ثم تعود خماصا منفرجة الاسارير تطلق النكات والبذاءات والحمدلله والحسبنة والحوقلة..تردد أقسى عبارات الاستهجان للواقع ثم تنام كل ليل معه في فراش واحد دون أن تشعل حربا اهلية أو ثورة شعبية حمراء تنادي بالمساواة التامة في الحياة.

بحسابات الأرقام والرياضيات، لا يفترض أن يكون هنالك بلد اسمه السودان على الخارطة، بحسابات التخطيط الإستراتيجي العلماني الحديث نحن الان في مرحلة ال Finish .
وهذه المرحلة لله ثم للتاريخ ليست وليدة حكم الإنقاذ الكالح وحدها، هذه مرحلة للدقة بدأت منذ دخول نمط الحياة الحديث محل نمط حياة تقليدي بسيط وساذج لكنه كان انسانيا جدا مدركا لممكنات عيشه ورزقه وسعيه، يشوبه مسحة من تصوف وزهد ومروءة.

كان لكل أسرة سودانية قبل سنوات ليست بعيدة ما يسمى ب( الجبراكة) وهي مزرعة صغيرة تلبي كل احتياجات البيت. كان يكفي الأسرة طولا وعرضا موظف واحد في الدولة، واحد براتب لا يتعدى الثلاثة جنيهات يكفل أسرة من عشرين نفس!

والى اللحظة يتساءل الإستراتيجيون والمثقفون والمفكرون وباحثوا علم الاجتماع والدارسين في حقل العلوم الإنسانية عامة، عن كيف يعيش السوداني اليوم؟
كيف لا يزال يرفع علما؟ ويردد نشيدا كل صباح!

ما نشهده من ثبات مجتمعي تكافلي خدمي على قلة ذات اليد، وانتشار للفقر والعوز والوباء الان، وضعف وتراجع مؤسسة الدولة عن كثير من مهامها الواجبة، كل هذا مرده إلى شخصية الساحر والد الطفلة موظف الدولة البسيط، الذي كان يجلس كل صباح في قهوة النور بسوق الموردة، ولا يزال إلى الان يبهر جيل الديجيتال هذا بسحر الصمود والرحيل الهادئ الخفيف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى