مقالات

الفشقة الصغرى: ما لا يجب أن لا يُقال ” يجب أن يُقال الآن”!

بقلم : عبد الجليل سليمان

لم أكن أرغب في تناول التطورات الأخيرة على الحدود السودانية الأثيوبية، ونتائجها المؤسفة، لولا أنني تابعت بعناية فائقة ما أرسلته الألسن وكتبته الأقلام من إفادات بعيدة عن الواقع الراهن، وعن التسلسل التاريخي لمشكلات الحدود بيننا وأثيوبيا في هذه المنطقة بالتحديد.
ولعلني أجد نفسي شديد العناية كغيري؛ بهذا الملف لكونه ملفاً وطنياً يمس السيادة على أرض سودانية من ناحية، ومن أخرى (وجدانية) خاصة بي، كوني من (القضارف) وأنفقت معظم سني طفولتي الباكرة في منطقة الفشقة الصغرى محل النزاع الراهن، حيثُ عمل والدي عليه رحمة الله، ممرضاً في (شفخانة – مركز صحي) السندس، لتسعة أعوام حسوماً، ولا تزال تربطنا صلات اجتماعية بأهالي تلك الأنحاء.
فلاش باك:
ما يهم في الأمر، إنّ تاريخ النزاع حول هذه المنطقة قديم جداً، منذ خمسينات القرن المنصرم، لكنه ظل في حدوده المعقولة بين مزارعين أثيوبيين ورصفاءهم السودانيين في الجهة المقابلة، إلى أن انقلب الإخوان المسلمين على السلطة، وقرروا 1995 اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا، وباءت محاولتهم بالفشل بل انقلبت وبالاً عليهم وعلينا جميعاً، حينها شعر الراحل مليس زيناوي بطعنة في الظهر، حيثُ كانت علاقاته جيدة بحكومة الكيزان، فتوغل الجيش الأثيوبي داخل الأراضي السودانية إلى عمقها، ثم انسحب لاحقاً – وبقى في أجزاء من أراضي الفشقتين الصغرى والكبرى (وليس كلهما) بشكل شبة دائم منذ 1998 وحتى الآن.
انتباه:
ما قيل في هذا الخصوص، هو أن أثيوبيا (الرسمية) تعترف قانونياً باتفاقية الحدود لعام 1902م، أي اتفاقية (هارنقتون – مينليك) وكذلك تعترف ببروتوكول الحدود لسنة 1903م ، واتفاقية عام 1972م مع حكومة السودان المستقلة بأن منطقة الفشقة أرضاً سودانية. لكن على أرض الواقع يبدو الأمر ليس كذلك، فلا تزال أجزاء من الفشقتين تحت سيادة أثيوبية فعليِّة، وسيادة سودانية (معترف بها من أثيوبيا) لكنها معلقة.
يبدو الأمر معقداً، أليس كذلك؟
إذاً، فلنشرح قليلاً:
محاججات أمهرا وولغايت:
يعتقد الشعب الأمهري الأثيوبي، اعتقاداً راسخاً وجازماً، إن هذه أراضيه وأراضي أجداده، وإنه لن يتركها حتى ولو منحها منيليك للإنجليز 1902، وبالتالي كلما حل خريف – وهذا الأمر مستمر منذ الخمسينات – يأتي مزارعون أمهرا بدعم من عصابات – (ولغاييت) التي تسمى بالأمهرية شفتا، ويزرعون الأراضي السودانية المعترف بها دولياً وأثيوبياً.
وهنا لابُدّ من فرز دقيق للمصطلحات، فهؤلاء المسلحون (الشفتا) ليسوا مليشيات، بل عصابات معروفة من أمد طويل، وينشط فيها ويترأسها وينظمها أفراد من شعب ولغاييت، وليسوا الأمهرا، فهؤلاء يستعينون بهم من أجل الحماية نظير مبلغ مالي.
وبالمناسبة ولغاييت هؤلاء، هم طيف أثني (مظلة شعوب) بينهم من أصوله سودانية، وقد كانت لديهم مشيخة في رأس الفيل منذ الدولة السنارية، وهؤلاء هم عماد وعصب (الشفتا)، وهم أيضاً مثل الأمهرا يقولون إن أراضيهم التاريخية تمتد ليس فقط إلى الفشقة أو القضارف، بل حتى أبي حراز شرق مدني!
لذلك، فإن الأمهرا وولغاييت (المسلحون – الشفتا) هم الذين يشعلون هذه المنطقة منذ عقود طويلة.
يُحاجج هؤلاء، بأنهم كقبائل حدودية كان يجب أن يكون لديهم امتداداً داخل السودان، كما متعارف عليه في كل العالم، لكن أراضيهم وهبها منيليك للإنجليز فتغيرت ديمغرافية المنطقة، وإن سكانها الحاليين جيئ بهم من أماكن قصيِّة من السودان الكبير، هكذا يقولون. بينما الحكومات الأثيوبية المُتعاقبة تفشل في اقناعهم إن الجدل حول الحدود لا يقوم على (التاريخانية) وإنما هو جدل قانوني ينبني على الحدود الاستعمارية، لجهة إن الاستعمار هو من أنشأ الدول ورسم حدودها في كل القارة الأفريقية، وبالتالي فإنكم إذا ما اعتديتم على هذه الأراضي ستحاكمون بموجب القانون الأثيوبي الذي يعترف بسودانيتها.
الحل لدى أثيوبيا:
اعتقد إن حل المشكلة الراهنة لدى الطرف الأثيوبي، ويتلخص في أن تلتزم الحكومة الأثيوبية بالانسحاب طالما هي تعترف بالفشقة سودانية، وأن تبدأ من فورها ذلك، مع معرفتنا إن هنالك صعوبات ستواجهها، لكن يمكن حلها بالتفاهم مع الجانب السوداني.
ثانياً، على الحكومة الأثيوبية، لكي تؤكد حسن نواياها ومصداقيتها، أن تطلق يد الجيش السوداني في عصابات الشفتا وأن تعتبر ذلك حقاً مشروعاً لحماية السيادة الوطنية للدولة السودانية، بأن يكون لها الحق في القضاء على المسلحين الذين يتجاوزون الحدود مدججين، وبطرق غير قانونية. وأقول هذا، لأن هذه العصابات أقلقت مضجع المواطنين السودانيين على الحدود، الرعاة والمزارعين والقرويين الآمنين، تنهب الأرض والمشاريع الزراعية والمحاصيل والماشية وتختطف رعاة أصحاب قطعان كبيرة ومزارعون كبار وتبتز أهلهم، ولا تطلق سراحهم إلا بموجب فدية يدفعونها عن يد وهم صاغرون، وإذا لم يفعلوا أو ماطلوا أو تجاوزوا الوقت الذي تحدده هذه العصابات مطلوقة اليد، فإن المختطف يقتل وتلقى بجثته في الطرقات أو وسط قريته أو مشروعة الزراعي، حتى يكون عبرة لغيره فلا يتأخر في سداد الفدية.
إذا ما التزمت الحكومة الأثيوبية بهاتين الناحيتين، فإن النزاع سينتهي تدريجياً، ما لم، فلن ينتهي أبداً.
ظاهرة استئجار الأراضي!
لكن، لكي نكون منصفين، فإن علينا أن نتحدث عن أنفسنا قليلاً، وأول هذا الحديث، إن مزارعين سودانيين يؤجرون أراضيهم لنظراء أثيوبيين، وهذه عادة جارية منذ سنوات طويلة، هذا الاستئجار يكون عرفياً دائماً، ولا يتبع السبل القانونية والرسمية، فيأتي المزارع الأثيوبي عبر (سمسار، وسيط) سوداني، ويستأجر أرض مساحتها آلاف الأفدنة بمبالغ كبيرة جداً، وغالباً ما يكون الاتفاق شفهي بحضور شهود، وقد تحدثت شخصياً قبل سنوات إلى مزارعين سودانيين في هذا الأمر فأقروا به.
الحكومتان تعلمان جيداً، بهذا النوع من الايجارات من الباطن، لكنهما لا تستطيعان محاكمة الفاعلين كونهما لا تمتلكان اثباتات على ذلك، وكذلك الأجهزة الأمنية تعلم، والزراعة الآلية تعلم.
ماذا في ذلك؟
في الغالب تكون مدة الإيجار بالخريف، أي يؤجر السوداني أرضه للأثيوبي لخريفين أو ثلاثة أو خمسة بمبالغ طائلة تفوق قيمة الأرض نفسها، لكن ما إن يأتي الموسم الزراعي خصباً وعالي الانتاج، حتى يسيل لعاب صاحب الأرض (السوداني)، فيطالب الأثيوبي بإخلاءها، وعندما يرفض يشتكيه إلى السلطات الأمنية مدعيِّاً إن هنالك أثيوبي استولى على أرضه وزرعها، فتأتي السلطات وتطرده، فيعود الأثيوبي مجدداً مستعيناً بعصابة من الشفتا مقابل مبلغ مالي، فتهاجم المزارع ومزارعين أخرين لا ذنب لهم وأهل القرية التي ينتمون إليها، وربما تطردهم وتصادر زراعتهم أو حصادهم.
بيان اتحاد المزارعين 2011:
وفي هذا الصدد، أصدر اتحاد مزارعي الحدود الشرقية بولاية القضارف في عام 2011 بياناً؛ نشرته الصحف حينها، ندد فيه ما أسماها ظاهرة استئجار الأراضي الزراعية بمنطقة الفشقة من قبل الإثيوبيين بأسعار فلكية تراوحت ما بين (100-80) ألف جنيه علماً بأن قيمة الإيجار الفعلية (السوقية) في المناطق الأخرى تتراوح من (10 إلى 20) ألف جنيه لمساحة الألف فدان.
وقال رئيس اتحاد مزارعي الحدود الشرقية وقتها – أحمد أبشر- لصحيفة (الحقيقة) إنّ قيمة إيجار الأراضي الزراعية للأثيوبيين بالمنطقة بلغت أرقاماً فلكية تفوق قيمة الأرض نفسها، مشيراً إلى أن هذه الظاهرة تستحق التوقف عندها والعمل على معالجتها، وأضاف: ” بدت أشبه ما تكون بالاستيطان، ونخشى من تحولها إلى عمليات بيع” منوهاً الى أن هذه الظاهرة تعني انتقال السيادة على الأراضي الى الإثيوبيين. ” انتهى الاقتباس”.
إذاً، وباعتراف اتحاد مزارعي الحدود الشرقية، فإن استئجار الأراضي لمزارعين أثيوبيين أصبح ظاهرة، وإنهم يدفعون أرقاماً فلكية للإيجار.
لذلك فإن هؤلاء المزارعون السودانيون الذين يؤجرون الأراضي للأثيوبيين وينكرون ذلك، يتحملون المسؤولية القانونية والأخلاقية، بل إنهم يمثلون خطراً داهماً على الأمن القومي، إلاّ من يتبع منهم الإجراءات القانونية السليمة (إن كان هنالك قانون في هذا الصدد – لا أدري)، كأن يحصل مثلاً على ترخيص من الزراعة الآلية، ويوثق عقد الايجار لدى السلطة القضائية أو لدى محامٍ وموثِق معتمد، وهذا يضمن حقوق الطرفين (السوداني والأثيوبي) ويقلل من النزاعات، بل يجعلها قانونية تقضي فيها المحاكم.
هل ثمة تفاهمات خفيِّة؟
أمر آخر، وهذا تحليل مني، مبني على حقائق، وهي إن والي القضارف الأسبق الراحل الشريف أحمد عمر بدر، ووزير الداخلية الأسبق عبد الرحيم محمد حسين، وهذا يمكن استدعاءه والاستفسار منه (التحقيق معه)، عقدا في عام 1998 اجتماعات واتفاقيات مع الطرف الأثيوبي، لا أحد يعرف عنها شيئاً، إلاّ الكيزان، لكنهما عندما عادا إلى البلاد، وجها الولاية بأن ترفع يدها عن نزاع الفشقة باعتباره شأناً سيادياً، وأمرا محافظي تلك الجهات بأن يتركوا الأثيوبيين يزرعوا هذه الأراضي، وأن الحكومة المركزية ستحل الأمر بمعرفتها.
يبدو إن هنالك اتفاقاً ما خفي؛ أبرمه الكيزان مع حكومة مليس زيناوي بخصوص الفشقة. وعلى الحكومة الحالية البحث عنه، لكنني أتذكر في هذا الصدد، ولربما يكون هذا هو الاتفاق عينه، إن د. حسن مكي الإسلامي المعروف، أشار في عام 2005، وحينها كان هنالك اجتماعاً منعقداً بين وفدين حكوميين سوداني وأثيوبي بمدينة قندر، أشار إلى إن الطرفين ربما يقترحا تسمية (الفشقة) (تخوماً) خاليةً من الوجود الإداري والسياسي؛ على أن تكون تابعة سيادياً للسودان، وأن يسمح للمزارعين الأثيوبيين بالتملك فيها وأن تكون المنفعة والعائد منها متاح ومفتوح للطرفين وفقاً لبروتوكولات قانونية تُحدد طبيعة الانتفاع وكيفية تقسيم الأراضي والمطلوبات الأخرى التي تنجم عن هذا الوضع.
وأخشى أن تكون إفادة حسن مكي هذه، هي صيغة التفاهمات بخصوص الفشقة بين الوفدين السوداني والأثيوبي آنذاك!
أمرٌ آخر، مهم هو إن لجنة حكومية لترسيم الحدود كانت شرعت في نهاية تسعينات القرن المنصرم – إنْ كنت دقيقاً – في وضع علامات ترسيم على طول الحدود، لكنها أوقفت بقرار من حكومة الكيزان المركزية. ولا أحد يعرف حتى الآن السبب، ويمكن للحكومة الحالية أن تسأل أعضاءها، وهم معروفون و بعضهم موجود في القضارف الآن.
على كلٍ، فإن أمر الفشقة لا يحل بالقوة، لأن الحرب إن اشتعلت؛ ابتلعت الجميع، وتضرر منها الكل، وندموا عليها، فالحوار هو السبيل الوحيد لحلها، كما يجب على الحكومة أن تستمع إلى سكان المنطقة الذين يعرفون كافة أبعاد القضية وأسرارها وخفاياها، كما عليها مساءلة النظام السابق، عن ما إذا كانت هنالك تفاهمات أو اتفاقيات خفيِّة بشأن السماح للمزارعين الأثيوبيين بزراعة تلك الأراضي، وما هو المقابل؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى