في العمق

مصعب قسم الله يكتب : حميدتي .. الجنرال في متاهته ( 1 )


الجنرال في متاهته رواية للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز تدور أحداثها حول تطورات الشهور الأخيرة من حياة محرر بلدان أميركا اللاتينية الجنرال سيمون بوليفار. والعنوان يلمح إلى عبارة منسوبة للجنرال الفنزويلي سيمون بوليفار قالها قبل بضعة أيام من وفاته: (سأكون بحالة يرثى لها لكي تحدثني عن شهادة واعتراف. ترى كيف سأخرج من هذه المتاهة؟).

الرواية تغطي مرحلة موثقة من حياة بوليفار، عندما غادر بوغوتا بعد تنازله عن رئاسة كولومبيا، وتمتد إلي حين توفي في بيت ريفي بالقرب من الساحل الكاريبي محاطا بحفنة ضئيلة من الأصدقاء. شارك سيمون بوليفار في عملية تحرير فنزويلا ورفع الوصاية عنها وقاد جيوشا حقق من خلالها العديد من الانتصارات التي أثمرت استقلال كل من كولومبيا والإكوادور وبيرو، كما قام بإنشاء جمهورية «كولومبيا الكبرى»، التي ضمت عددا من بلدان أميركا اللاتينية، وشغل منصب رئيس كل من فنزويلا وكولومبيا، ودافع عن تشكيل اتحاد كونفدرالي بين سائر بلدان القارة الأميركية، لكنه لم ينجح في هذا المسعى. وفي عام 1930 وبعد فترة ذاخرة بالمواجهات بين جماعات سياسية مختلفة، غادر بوليفار إلى منفاه الطوعي في أوروبا، الذي لم يصله أبدا.

في الرواية يتناول ماركيز الجنرال بوليفار أثناء مرحلة الاستعدادات التي سبقت الشروع في رحلة قام بها من منطقة سانتافي في بوغوتا وقادته إلى شاطئ نهر ماجدالينا، ومن هناك إلى مدينة كارتاخينا دي اندياس. وكان بوليفار في هذه المرحلة الأخيرة من حياته مصابا بمرض السل ومتكدر المزاج بسبب فشل مشروعه السياسي في حالة أقرب ما تكون إلي البؤس. وأثناء رحلته هذه يصل إلى قرى يستقبله الناس فيها استقبال الأبطال ويصبر على حفلات تكريم واحتفاء باتت تبدو بلا معنى وخارج كل سياق في ظل الوضع الذي آلت إليه تطلعاته وأحلامه على الصعيدين العام والخاص على حد سواء.

الرواية عبارة عن نص يركز فيه المؤلف على حالة من التأمل حول وضع انعدام الاستقرار في الجمهوريات الأميركية الجديدة. فها هو جندي من الجيش المحرر يطلب إلى بوليفار ما كان خارج جميع الحسابات والتوقعات السياسية على ما يبدو قائلا: لقد حصلنا على الاستقلال أيها الجنرال، فقل لنا الآن ما الذي نفعل به؟

نفس السؤال يعتبر مدخلاً مناسباً لقراءة تداعيات الأوضاع بالسودان عقب ثورة التغيير الوطني وما أفرزته من أوضاع يعد أحد أهمها هو ترسيخ شرعية أحدى مليشيات النظام السابق قوات الدعم السريع وقائدها أحد أبرز المؤثرين ومراكز القوى الجديدة محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي. وارتباط السؤال: لقد حصلنا على التغيير، فما الذي نفعل به الآن؟ يبدو لحد ما هو المحرك للأحداث وحالات الشد والجذب بين مختلف مراكز القوى داخل وحول هياكل الحكم الانتقالي. فالجميع لديه مصالح تتعلق بالتغيير تلتقي في أحيان وتتقاطع في أحايين أخرى مما يشكل واقع الحكم والإدارة الإنتقالية بالبلاد لحد كبير.

وأوجه الشبه بين الجنرالين سيمون بوليفار وحميدتي كثيرة للغاية، لمصلحة التسلسل التحليلي للمقال سأكتفي منها فقط بجانب النفوذ والتفوق العسكري وما يصاحبه من طموح سياسي مشروع للسلطة والحكم باستخدام شتى الوسائل المتاحة. وأيضا أوجه الإختلاف كثيرة فالجنرال سيمون بوليفار حملته للسلطة بطولات التحرير الذي كان أبرز قادته لدول أمريكا اللاتينية بينما الجنرال حميدتي حملته للسلطة الأوضاع الاستثنائية والشاذة للنظام البائد ومعادلات التوازن العسكري عقب سقوطه التي كانت وما زالت تهدف للحفاظ على مصالح القادة العسكريين والتغطية على مشاركتهم في انتهاكات حقوق الانسان والتجاوزات التي دأب النظام البائد في ممارستها ضد مختلف الشعوب السودانية لا سيما باقليم دارفور والتي يعتبر الجنرال حميدتي وقواته أبرز المتهمين والمتورطين فيها.

من البديهي إن أي تغيير وطني في البلاد كان يستدعي عقد العديد من التسويات والهدنة بين مختلف المكونات، وهو ما جرى بين المكونين العسكري والمدني ممثلين في المجلس العسكري الانتقالي سابقاً وقوى الحرية والتغيير، وغني عن القول أن نمط ومخرجات هذه التسوية كانت من الضعف والهشاشة للدرجة التي جعلتها تشكل الواقع وفق ما هو ماثل الآن. فلا الحكومة الانتقالية قادرة على ادارة معاش الناس وتقديم الحلول لاشكالاتهم ولا القوى الامنية قادرة على وقف التفلتات ونزيف الدم السوداني في مختلف المناطق ولا قوى الحرية والتغيير قادرة على تحقيق أي استقرار سياسي او توفير الدعم الشعبي للاوضاع القائمة بل هي لم تستطع الحفاظ على تماسكها ووحدة تحالفها نفسه.

في ظل هذه الأوضاع تبدو طموحات الجنرال حميدتي واضحة وجلية ولا تحتاج كبير عناء لادراكها، فالرجل لا يبحث فقط عن موطئ قدم له ليكون مؤثراً ويحافظ على مصالحه ومصالح أسرته وحلفائه فقط بل إن طموحه يتجاوز كل هذا ويؤسس لواقع جديد يكون فيه هو الرئيس الفعلي والحقيقي للبلاد سواء كان ذلك بشرعية قانونية أو بشرعية السلاح ومنطق القوة، وحتى لا أكون متجاوزاً في حقه فشرعية السلاح ومنطق القوة هما الأساس الذي بنى عليه وضعه السياسي، ولولاهما لما كان له هذا الوجود والتأثير الحالي، وليس من الحكمة أو الذكاء الإدعاء بأنه سيتنازل عنهما لأي سبب من الأسباب، كما أن أي قراءة ورصد تحليلي لتاريخ الرجل وقواته كفيل بأن يقودنا إلي نتيجة حتمية وهي أن كل المحاولات السياسية للجنرال حميدتي في السابق والحاضر والمستقبل لن تكون بعيدة عن شرعية ومنطق أدوات القوة التي يمتلكها وهي السلاح وقوات الدعم السريع.

يتبـع

زر الذهاب إلى الأعلى