مجرد رأي

الحلول الأمنية والعسكرية إستراتيجية لن تصب إلا مزيد من الزيت على نار النزاعات القبلية بالسودان

ظلت القبائل السودانية لفترات تاريخية بعيدة وحتى الآن تمثل بشكل نسبي الوحدة الاجتماعية الرئيسية في المجتمع السوداني، فالقبيلة كنظام إجتماعي يحمل أفرادها مفاهيم ورؤى وتصورات خاصة حول المحيط الاجتماعي الذي يعيشون فيه يشكلون ثقافتهم القبلية التي تتكيف مع البيئة الطبيعية التي يعيشون فيها وتتكون وفقا لها شخصيتهم المميزة ونمط إنتاجهم الخاص والذي يتراوح بين الزراعة والرعي في الغالب.

تختلف سياقات التناول لدى الدارسين في العلوم الإنسانية والإجتماعية في تحديد مفهوم القبيلة، هذا المفهوم على الرغم من شيوع إستخدامه فإنه لا يحظى بالإتفاق على مستوى الدلالة والمعنى. إلا إن التعريف الأنسب للواقع السوداني هو الذي يعرف القبيلة على إنها ” شكل مجتمعي يشكل عندما تتحد مجموعة من رجال ونساء يعترفون ببعضهم كأقارب، بكيفية فعلية أو وهمية، بالولادة أو بالمصاهرة، ويكونون متكافلين لضبط إقليم وإمتلاك موارده التي يستثمرونها معًا أو كل على حدة، ويكونون مستعدين للدفاع عنها، وتعرف أي قبيلة على الدوام باسم خاص بها ” موريس غودلييه.

إن نشوء معظم النزاعات القبلية في السودان تعود أسبابها إلى النزاع حول موارد الأرض والماء المحدودة في ظل الإنفجار السكاني وتزايد أعداد المواشي. وقد كان الشكل الأساسي في بداية صراع الموارد هو نزاع بين القبائل الرعوية الرحالة والقبائل الزراعية المستقرة، وقد ضاعف غياب التنمية من العامل الأول. إذ يكاد معظم المحللين يتفقون على أن هناك تهميشاً واضحاً من الحكومات المركزية في الخرطوم على مدار تاريخ السودان المستقل لكامل الأطراف الجغرافية بالبلاد، برغم إسهامها الكبير في الدخل القومي السوداني بثرواتها الحيوانية والزراعية.
أيضا من أهم اسباب النزاعات القبلية هو محاولة العديد من الأطراف المحلية والإقليمية المنخرطة في النزاعات الوطنية – بما في ذلك حركات الكفاح المسلح – إدماج الإدارة الأهلية في أجنداتها السياسية إعتقاداً منهم أن قبائلهم ستحذو حذوهم. لكن الإدارة الأهلية لم تعد تمتلك اليوم السلطة التي كانت لديهم في السابق كما تناولنا ذلك بالتفصيل في المقال السابق. إذ أجبرت النزاعات والتغيرات الديمغرافية إضافة إلى إرتفاع الوعي ونسب التعليم المجتمعات القبلية على تحويل إهتمامها بمصالحها الي تكتلات جهوية أو قومية ذات طابع مطلبي أو سياسي، ومن شأن هذا التحول أن يواصل تقويض النظام القبلي شيئا فشئ.

من أبرز العوامل التي أثرت بشكل مباشر في استمرار وتأجج النزاعات القبلية وذلك على سبيل المثال لا الحصر:

  • تفاعلت القبائل منذ الإستقبال وبالذات منذ نظام مايو وحتى اليوم مع سلطة مركزية قوية في السودان. وأدى ذلك إلى تغير العلاقات القبلية خاصة عقب حل الإدارة الأهلية، إذ قلص ذلك من قدرة الادارة الاهلية على تعبئة وقيادة قبائلهم، ومع ذلك لم يلغ ذلك سلطتهم الرمزية المتأتية من أنسابهم ومن التقاليد القبلية.
  • الحروب الأهلية قلصت كثيرا من سلطة وسيطرة الحكومات المركزية المتعاقبة، الأمر الذي شرع الأبواب أمام لاعبين سياسيين جدد، الذين استفادوا من الإنقسامات والصراعات القبلية وعملوا على ترقية مصالحهم الخاصة.
  • عزلت النزاعات المسلحة في البلاد العديد من المجتمعات القبلية المحلية، فقد دفعت الحاجة إلى الأمن فضلاً عن بروز فرص لتحقيق مكاسب مادية بهذه المجتمعات إلى التركيز على واقعها الداخلي، ما أدى إلى إضعاف العلاقات القومية الأوسع بين مختلف المكونات الاجتماعية.
  • لم يعد بإستطاعة الإدارات الأهلية تمثيل قبائلهم بالكامل سواء على الصعيد السياسي أو العسكري، مع ذلك ظلوا يواصلون لعب دور الوسطاء لحد ما في عمليات المصالحة المحلية، مساهمين بذلك في إرساء الإستقرار في المناطق التي يسكنها أفراد قبيلتهم مما أكسبهم المزيد من الزخم السياسي والإمتيازات خاصة في فترة حكم نظام الانقاذ الديكتاتوري.
  • من الواضح ان هناك جهات تسعى إلى تقويض وحدة وإستقرار القبائل خاصة في مناطق النزاعات، خوفاً من أن تنقلب هذه الوحدة عليها، خاضة إذا ما أدركت هذه القبائل أن فرص نجاحها في بلورة نظام ما بعد الحرب في البلاد يعتمد على قدرتها على التوحد حول القضايا ذات الاهتمام المشترك.

إن صعود الحس القومي وحالة التكاتف التي تجاوزت القبلية والجهوية في ثورة ديسمبر المجيدة ضد النظام السابق أضاف بعداً جديدا للواقع الوطني يحتم على الجميع العمل على حل الاشكالات والنزاعات القبلية ضمن مشروع وشروط السلام الدائم وبناء الدولة السودانية وذلك وفقا لشروط أساسية أهمها فهم التركيبة الإجتماعية القبلية في معظم مناطق البلاد كمدخل لحل النزاعات المسلحة بينها على ضوء تقاطع المصالح المُتعددة الوطنية والإقليمية، وكمدخل أيضا لاستطلاع آفاق المحصلات السياسية المُستقبلية.

على الأساس سابق الذكر فإنه من الخطأ الإعتماد على المقاربات والحلول ذات الطابع الأمني والعسكري، فإنها وإن كانت تستطيع الفصل بين الأطراف المتنازعة إلا أن ذلك يظل مجرد تسكين موضعي للألم دونما علاج أصل الداء. لذلك يجب على هياكل الحكم الإنتقالي والحاضنة السياسية قوى الحرية والتغيير المبادرة بمخاطبة أسباب الأزمة وليس تداعياتها وتمظهراتها الحالية فقط وذلك عبر إجراءات وتوجهات تتبناها مؤسسات الدولة بشكل عاجل وتضعها موضع التنفيذ وهي حسب رأيي:

أولاً: أعادة بناء مؤسسات وهياكل الدولة في الفترة الانتقالية وفقا لإصلاحات قانونية وإدارية ترتبط بترسخ مفهوم أن الدولة هي السلطة العليا التي لا تعلوها أيّ سلطة أخرى.

ثانياً: أن تتبنى الحكومة الإنتقالية نموذج حكم يؤمن مشاركة حقيقية لجميع مكونات الوطن الاجتماعية والسياسية، يتمّ من خلاله توزيع منصف للثروة والسلطة، وفق معايير قومية موضوعية تقضي على الشعور بالغبن التاريخي.

ثالثاً: تتبنى الحكومة الانتقالية برنامجاً قومياً للمصالحات بين جميع السودانيين بمختلف إثنياتهم وقبائلهم. وتقوم فيه المصالحات على إنصاف كل من ألحق به ضرر بسبب الحروب، أياً كان مصدرها، سواء من قوّات نظامية أو حركات مسلحة او قبائل.

رابعاً: العمل على ترشيد الوعي القبلي وتطهيره من العصبيات والتناحر المدمر والظلم والعدوان وفي الوقت نفسه مراعاة كل أشكال التنظيم الإجتماعي التي تخضع لقوانين إجتماعية تاريخية، تحدد ما هو ثابت وما هو متغير.

خامساً: تطوير النظام الأهلي وتوظيف القبيلة على نحو رشيد من أجل تحقيق الوظائف الدفاعية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تحددها إستراتيجية وطنية بعيدة المدى وفقاً لمبادئ متفق عليها من كل مكوّنات المجتمع السوداني.

سادساً: تبني وتنفيذ سياسات إعلامية وثقافية تسعى إلى تغيير القيم الثقافية والإجتماعية السالبة خاصة في ما يتعلق بصورة الآخر وقبوله ومبدأ التعايش السلمي والإعتراف بالتنوع وادارة الاختلاف.

سابعاً: تبني سياسات وبرامج تنموية طموحة بمختلف مناطق البلاد مع ضرورة التمييز الإيجابي لمناطق النزاعات المسلحة، تراعي خبرات السودان ومخزون الثقافة الزراعية والرعوية المتوفر لديه وتعمل على إيجاد الحافز للمزارعين والرعاة للمساندة في تعظيم وتطوير الإنتاج والتصنيع الزراعي والحيواني، والإستغناء عن إستيراد نسبة كبيرة من إحتياجاتنا الغذائية، وزيادة فرص العمل في مجال التصنيع الزراعي والحيواني.

ثامناً: تطوير وتحسين جودة الخدمات الصحية والتعليمية كماً ونوعاً باعتبارها حقاً أصيلاً للمواطن في كل أصقاع السودان، مع مراعاة المناطق المتأثرة بالحروب والنزاعات المسلحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى