الشرق الأوسط

السودانيون تحولوا لضحايا للإشاعات والدعاية والحرب النفسية

سيادة الإعلام الشعبي بسبب القيود على حرية الصحافة

 

إذا سألت أحد النازحين من الخرطوم أو دارفور وكردفان عن الحرب، فربما لا يستطيع إجابتك بسرعة، ليس لأنه لا يعلم، لكن ليرتب ذاكرته المثقلة بالحرب ومآسيها، التي ربما كان شاهداً عليها، أو سمع بها، أو نقلتها له منصات الميديا الاجتماعية… وربما تدمع عيناه وهو يستذكر بشاعة ما شاهد عياناً أو عن طريق «الفيديوهات» المعدة بعناية من طرفي الحرب، ما يجعل طارح السؤال يتعاطف مع محنته ودمعته السائلة، فلربما يكون قد فقد بالفعل أعزاء في تلك الحرب، أو أنه في الحد الأدنى خسر كل ما يملك… أو أنه بكل بساطة، لا يعرف الحقيقة التامة لما يجري.

ولم تعد الحرب بين الجيش و«الدعم السريع» شأناً عسكرياً محضاً، بل تحولت إلى شأن إعلامي شعبي تتناقله وسائل التواصل، وليست أجهزة الإعلام التقليدية أو الحديثة وحدها المعنية بنقل أخبار ما يجري، فالأشخاص موجودون في مناطق الاشتباكات أو قربها، ولا يعتمدون على تلك الوسائل لتخبرهم ما يجري، لأنهم شهود عيان على كيفية إزهاق الأرواح، وهم على مقربة من الموت بسلاح المتحاربين عن قصد أو مصادفة، بينما يعتمد بعضهم على ذاكرته، وبعضهم يسجل الأحداث على دفاتر تكشف كم هي خاسرة حرب الصراع على كراسي الحكم.

يقول المواطن يحيى الصادق لـ«الشرق الأوسط»، إنه لا يزال في الخرطوم، ويعيش على وقع دوي الانفجارات العنيفة، ولا يهتم كثيراً بمتابعة القنوات القضائية لمعرفة أخبار الحرب، لأن ما يشاهده على الأرض حقائق كافية، لا تكذب ولا تتجمل. ويتابع: «عندما يستضاف أحد أطراف النزاع في وسائل الأعلام يحاول تبرئة نفسه من جرائم الحرب التي يجري ارتكابها منذ 5 أشهر، ويدين الطرف الآخر، ويكيل له الاتهامات… ولذلك لم نعد نثق بأحد».

أكلت حرب الخرطوم كل شيء، ولم تترك للناس شيئاً. والجميع يطمحون في العودة إلى حياة طبيعية، وينتظرون أن تأتي عن طريق المفاوضات، ويأملون أن ينجح منبر «جدة» التفاوضي في وقف الحرب، لا سيما أنه قطع شوطاً مقدراً، لكن توقفه عن مواصلة التفاوض أحبط الكثيرين، الذين، رغم ذلك، لا يزالون يعقدون الأمل على عودة العقل للطرفين، فيعودان للتفاوض ووقف التقاتل.

وكان نائب رئيس «مجلس السيادة» مالك عقار، قد أكد في خطاب وجّهه عبر التلفزيون الرسمي الأسبوع الماضي، أن الحل يكون على طاولة التفاوض، لكن حملة عنيفة شنت ضده رغم منصبه الرفيع، من دعاة الحرب، وعلى وجه الخصوص جماعات «الإخوان» وأنصار النظام السابق الذين تمسكوا بضرورة «استمرار القتال حتى النصر» على قوات «الدعم السريع»، ومارسوا ضغوطاً إعلامية على قيادة الجيش، وشنوا حملات مكثفة على دعاة وقف الحرب، اتهموهم فيها بأنهم داعمون لـ«التمرد».

ويقدر عدد السكان الذين فروا من الخرطوم إلى الولايات الأخرى بنحو 3 ملايين شخص، بينما لجأ مليون آخرون إلى دول الجوار، من بين سكان المدينة المقدر عددهم بنحو 10 ملايين نسمة، كلهم انقطعت عنهم المعلومات الدقيقة عن الأوضاع في مدينتهم التي نزحوا منها، ولم تعد وسائل الإعلام والصحافة تقدمها لهم. وصار الاعتماد كله على «الإعلام الشعبي» المتمثل في الجيران والأقارب في مناطق القتال، ينقلون ما يشاهدونه بأم العين، والمواقف الحزينة التي مروا بها، وكيف نجوا من الموت، وأي مغامرة خاضوا ليبقوا على قيد الحياة. ومثل متابعة أخبار الخرطوم فإن الناس يتابعون سير المعارك التي تجري في دارفور وكردفان عن طريق الإعلام الشعبي: «الأقارب والمعارف».

 

وبسبب التضييق على أجهزة الإعلام والصحافة، أصبح الناس يعتمدون بشكل كامل على ما تنقله وسائل التواصل، فيقعون ضحايا للتضليل الدعائي الذي أطاح بعنق الحقيقة، وجعلها أول الضحايا؛ لأن الإعلاميين المحترفين لا يستطيعون أداء مهمتهم في نقل المعلومات من ميادين القتال، أو من مصادر موثوق بها؛ فالطرفان يعدونهم «أهدافاً»… وإذا نقل وسيط إعلامي معلومات لم تعجب أحد طرفي القتال، فهذا قد يجعل منه هدفاً، ولذلك حلت وسائل التواصل في نقل المعلومات، عن طريق نشر الفيديوهات حول سير المعارك والجرائم… وباختصار، أصبح الناس يحصلون على المعلومات من «مصادرهم الخاصة» وأولها وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن المفارقة هي أن «السوشيال ميديا» صارت هي الأخرى أداة حربية؛ ولذا صار الناس ضحايا للدعاية الحربية والحرب النفسية التي يشنها كل طرف على الآخر، وتستخدم فيها التقنيات الحديثة، لإلحاق الهزيمة النفسية بالخصم؛ ولذلك سيطرت حالة من «اللايقين» على الجميع تقريباً: ماذا يحدث فعلاً؟ ومتى تنتهي الحرب؟ ومن ينتصر ومن يخسر؟… ومثلما قال أحد المواطنين على صفحته في «فيسبوك»: «كلهم يكذبون ويقولون انتصرنا، فمن نصدق إذن؟».

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى