القصة ومافيها

النور عادل يكتب : ماذا لو هدأ الشارع؟

حتى لو توقفت المواكب والمظاهرات السلمية اليوم وعاد الشباب إلى بيوتهم والعسكر إلى ثكناتهم والرصاص والسلاح إلى خزائنه وأخذ الموت جولته بعيدا في أي بلد منكوب آخر، ستظل الازمة شاخصة حاضرة وبقوة وصفها الابرز قاله عبدالله حمدوك رئيس الوزراء المستقيل (أزمة سياسية بامتياز). باتت الازمة الان انسداد طرق الحل بسبب معركة الجنرالات على الوطن الغنيمة، فإما أن يكون الوطن أو يكونوا هم، نفس النزق الفرعومي القديم (ما أريكم إلا ما أرى).
ما يحدث ببساطة في السودان الان هو غياب تام للدولة الرسمية، الدولة ذاك المصطلح السياسي الفضفاض، على علاتها وسقمها باتت اليوم غائبة، أو على أحسن الفروض حاضرة بشكل هزيل في بضع مبان وحرس وسارينات تصرخ كالشياطين وهي تحمل تحت سقفها افشل النخب السودانية التي مرت على التاريخ السياسي الحديث. ويكفي أن تقول هجو أو مناوي حتى يضحك الرضيع من كوميديا الاسمين.
إن فقه الدولة الحديثة قائم على لب نظرية العقد الاجتماعي الشهيرة، والتي تقول بالفصل بين السلطات الثلاثة المعروفة، وتقتضي أن يتنازل الفرد طواعية عن جزء من حريته الشخصية مقابل توفير الحماية والامن والنظام، بناءا على هذا التنازل الضمني العام تتمظهر الدولة في شكل ساسة وعسكر ودواوين ومجالس ومباني ومراكز قرار تشريعية وتنفيذية وقضائية. ويتم فرض النظام العام، والامن العام بقوة السلاح والقسر المتفق عليه ضمنا، فمن يخالف النظام العام بأي جرم كان يقوم فرد آخر مثله لكن بصفة الدولة باخذه للقسم وعمل بلاغ ومنها يحبس ويؤخذ تاليا للنيابة ومن ثم للمحاكمة فالسجن او الاعدام او البراءة.
تقوم الدولة بتجميع الثروات، وفرض الضرائب، والرسوم المختلفة، وتجييش الناس في جماعة مسلحة تطلق عليها إسم الجيش او القوات المسلحة أو قوات الشعب وهكذا، يذهب الجيش لمهام الدفاع والامن ضد العدو الخارجي او حالات الطوارئ العامة للدولة كالكوارث البيئية وما إلى ذلك، والشرطة للامن الداخلي، هذا الوضع المعروف المبثوث في كتب ومراجع العلوم السياسية والحكم، بات هذا العلم مسخ مشبوه في رقعة اسمها السودان.
فالاقتصاد منهوب علنا وبكل جرأة عبر التهريب الرسمي وغير الرسمي، والقوات النظامية الرسمية اما منقسمة على ذاتها داخليا في صراعات الكبار أو تنتظر التعليمات. والاقل انضباطا عسكريا لا وقت لديهم لترك دورهم المعتاد في النهب والسلب ولكن والمؤسف هذه المرة بالزيي الرسمي للدولة! فأصبح اللص والنظامي وجهان لعملة واحدة، ولا غرو اليوم ما نراه ونسمعه من تفلتات خطيرة فإن ثقة المواطن في جهاز شرطته قد سقط إلى مستويات كارثية تماما خاصة مع صور ومقاطع الفيديو المنتشرة لجنود الشرطة وهم نفسهم ينهبون الناس في الشوارع وليس حادثة هنا وهناك لنقول الكلمة المحببة لاعلام الشرطة (فردية) لا، إنما بات سلوكا عاما تماما فاق مرحلة الظاهرة إلى العادي واليومي، ووصل الامر منتهاه إلى جريمة اغتصاب طالبة داخل داخلية حجار للطالبات واخفاء الشرطة – عمدا-لوجه الجاني يوم عرضه على المحاكمة! تخيل حجم المأساة!
الوضع في البلاد بات اكثر تعقيدا من مجرد مواكب وشباب حانق يرى بلاده أمام عينيه تضيع وتسرق وتنهب وتقتل ويرى مستقبله كله أمام عينيه غائما، ضبابيا، يسرق ويؤمم لصالح أفراد قلة معدودة.
إن الوضع في السودان ليس مجرد صراع بين عسكر اثبتت التجربة المعاصرة أنهم الأسوأ في ادارة الشأن العام وبين احزاب انتهازية جبانة وبين شباب حانق ناقم، لا، الوضع الان بات عبارة عن بنية سياسية اقتصادية هشة متلاشية لا هي دولة ولا شبه دولة، هي كيان كبير مزعزع بين التحقق والصيرورة إلى شيء معتبر وبين التلاشي والتقسم والضياع الكلي. ما يجري الان ليس مجرد تكالب على السلطة من بعض الهمج الجهلة ممن آتاهم الله القلم وهم جاهلون، انما هو معاندة للتاريخ ولحركة الاجتماع البشري،إنه وقوف عبثي ضد التغيير الكوني وسنن النهوض الكونية الربانية، فأي أمة فشى فيها الظلم والجور اندثرت وطواها التاريخ ذلك العجوز الفارع الطول اللانهائي الاشيب شديد بياض الشعر واللحية تغطي وجهه وكلها سنوات من عمر الأمم. وأي أمة عدلت وانتصرت من قويها لضعيفها ارتفعت في وجه التاريخ شامة كبيرة وسواد في بحر البياض التاريخي.
السودان اما يكون أو لا يكون، وثق أيها القارئ المحترم أن حميدتي والبرهان لا مستقبل لهما في حكم السودان ولو جمعوا كنوز كسرى والعالمين. فالتاريخ يعمل عمله منذ بدأ الخليقة ولا يأبه بالجهل وقلة المعرفة به وبحركته.
قال الله في سورة النمل- ولاحظ في سورة النمل حتى أنه لم يخص المجرمين بسورة خاصة، فذكرهم مع البقر والنمل والدواب- قال سبحانه
( سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ).
سورة النمل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى