كتائب الظل الإعلامية وغلواء التخوين والمزايدات
بقلم : رشا عوض
إن الحرب اللعينة المشتعلة في السودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023 هي انفجار مدوي للأزمة الوطنية المتراكمة، وكارثة من العيار الثقيل لان استمرارها لزمن طويل احتمال وارد في ظل المعطيات الماثلة، فالحروب فور اندلاعها تكتسب منطقها الخاص وديناميات توسعها وتطورها الذاتي واجتذاب أطراف داخلية وخارجية إضافية، مما يرفع الى الحد الأقصى الكلفة الإنسانية الباهظة التي يدفعها المواطنون الأبرياء ارواحا ودماء نازفة واوصالا مقطعة ومنازل مدمرة وتشردا ومذلة وانكسارات نفسية وجروح معنوية عميقة تحت وطأة الخوف ومرارة فقدان كل شيء في لحظة، ولذلك فإن خيار لا للحرب والدعوة لايقافها ، وبذل كل ما في الوسع لاستباق تمددها لسنوات عبر الدفع في اتجاه الحل السياسي هو التعبير الأمثل عن الانحياز للمصلحة الوطنية الحقيقية ومحورها حفظ حياة السودانيين وكرامتهم، وعندما تكون الحرب مجرد صراع السلطة العاري بين طرفين لكل منهما مشروع استبدادي أرعن ، يكتسب خيار مناهضتها مشروعية أكبر بل يكون واجبا انسانيا واخلاقيا. وهذا ينطبق على هذه الحرب الدائرة في السودان الآن بين فلول نظام البشير والدعم السريع، ومهما حاول الكيزان الخداع والتضليل حول هذه الحرب وتصويرها كمعركة وطنية بين الجيش السوداني ومليشيا متمردة، فإن الحقيقة المرة ستمد لسانها ساخرة من كل إفكهم.
في هذا السياق لا بد من تفنيد السرديات الكاذبة والأفكار المضللة حول طبيعة هذه المحرقة الوطنية، والتصدي بحزم للإرهاب الفكري المنطلق من منابر الإفك والنفاق بهدف حبس الرأي العام السوداني في ثنائية بسيطة وخبيثة ومضللة خلاصتها ان هناك معركة للكرامة والشرف يخوضها الجيش السوداني ضد مليشيا متمردة عليه، وهي معركة لا حياد فيها، اما الاصطفاف دون قيد او شرط خلف الجيش وهذا مقام الوطنية، وإما الاصطفاف خلف التمرد وهذا مقام الخيانة العظمى والعمالة والارتزاق! ولا مجال لحياد او موقف مستقل لان هذا يدخل صاحبه بصورة حتمية في معسكر الخونة والعملاء.
الإعلام الحربي لهذه المحرقة الوطنية تديره كتائب الظل الإعلامية من الصحَّافين (الصحَّاف هو آخر وزير اعلام لصدام حسين ادار الحملة الإعلامية أثناء الغزو الأمريكي، وكان يراهن على الكذب في تحقيق النصر، فظل يهدد “العلوج” بالإبادة حتى دخل العلوج بغداد)، وكمدخل لتأسيس موقف عقلاني من هذه الحرب، تطرح هذه المقالة حزمة من الأسئلة على كتائب الظل الإعلامية:
السؤال الأول: من الأولى بالتجريم في قضية المليشيات؟
تتجاهل كتائب الظل الإعلامية حقيقة ان النظام الإسلاموي هو الذي أنشأ المليشيات في سياق مشروع الدولة الموازية المملوكة للتنظيم المزروعة بمكر منقطع النظير داخل مؤسسات الدولة الرسمية مدنية او عسكرية لضمان استدامة السلطة الاحتكارية، فالذي أنشأ الدعم السريع وقنن وجوده وانفق عليه من مال دافع الضرائب السوداني هو نظام الكيزان، والذي تولى تسليحه وتدريبه هو الجيش الذي يسيطر على قيادته الكيزان، ومليشيا الجنجويد عندما كانت ترتكب المجازر البشعة والاغتصابات وحرق القرى في دارفور كان جهاز امن الكيزان يعتقل من يعترض على انتهاكاتها او حتى ينشر اخبار جرائمها، فالجنجويد بقيادة موسى هلال ثم الدعم السريع بقيادة حميدتي خط احمر دونه المعتقلات وإغلاق الصحف! والذي أدخل الدعم السريع الى الخرطوم بعشرات الآلاف هو عمر البشير بهدف الاستقواء بهم على الشعب حال الانتفاضة!
رغم كل ذلك تتحدث كتائب الظل الإعلامية بمنتهى الصفاقة والبجاحة وانعدام الحد الأدني من الحياء بلغة تجريمية عن كل من قال لا للحرب نعم للسلام على اساس ان في ذلك تواطؤ مع المليشيا المتمردة! وكأنما هذه المليشيا هبطت من السماء او خرجت من دور الأحزاب او من مقالاتنا في مناهضة الحرب!
هل يستقيم عقلا عدم تجريم من صنع الألغام وزرعها في طريق الوطن، ويكون التجريم المغلظ لمن يسعى في نزع هذه الألغام وتفكيكها بشكل آمن لأن إزالتها بارتجال وعشوائية ستقطع أوصال الوطن وتحرق مواطنيه.
السؤال الثاني:حول تخوين من يقول لا للحرب!
اذا كان مجرد اتخاذ موقف مناهض للحرب، على أساس ان طرفيها على حد سواء لا يستحقان الاصطفاف الشعبي خلفهما، وأن الحرب تدور حول السلطة لا الوطن ولذلك يجب ان نحاصر حريقها بعدم النفخ فيها وتوسيع دائرتها ، اذا كان هذا الموقف خيانة عظمى وان لم يؤيد صاحبه الدعم السريع او ينخرط في القتال معه، بل حتى لو صرح صاحب هذا الرأي بنقده للدعم السريع وأطماع قائده في دولة مليشياوية عشائرية، فهل ارتكب ” الشهيد” عبد الإله خوجلي و”الشهيد” محمد صالح عمر جريمة الخيانة العظمى عندما قاتلا الجيش السوداني من صفوف الجبهة الوطنية في حركة يوليو ١٩٧٦ التي تحركت من ليبيا نحو الخرطوم للاطاحة بنظام نميري وقاتلت الجيش في شوارع الخرطوم لايام ؟
لماذا في ذلك الوقت كان حمل السلاح وقتال الجيش عديييل جهادا في سبيل الله والان توجه تهمة الخيانة العظمى والارتزاق والعمالة لمجرد الامتناع عن مناصرة الجيش دون التورط في مناصرة خصمه؟
مع العلم ان الجيش في ١٩٧٦ كان أكثر مهنية وقومية بما لا يقاس من وضعيته الراهنة، فهل هناك معايير موضوعية للوطنية أو للخيانة؟ أم ان الأمر مجرد بلطجة كيزانية غير محكومة بأي منطق سوى مصلحة الكوز في ظرف الزمان والمكان المعين؟! فتكون مناصرة الجيش وطنية ومجرد مطالبته هو وخصمه بوقف الحرب خيانة عظمى فقط في حالة ان يكون الجيش تحت سيطرة الكيزان ويخدم اجندتهم الانقلابية في حيازة السلطة!! اما عندما يكون الكيزان معارضين للنظام الحاكم فان القتال ضد نفس الجيش يكون جهادا!!
المليشيا عندما تكون في خدمة الكيزان فهي مقدسة وجزء لا يتجزأ من القوات المسلحة وبمجرد خروجها عن بيت الطاعة وتحولها الى عقبة في طريق الانقلاب الكيزاني تصبح مدنسة!
ألا يثبت ذلك ان الأجندة كيزانية وليست وطنية؟ ومنذ متى تحمس الكيزان بكل هذه القوة بل والتطرف لشأن يخص الوطن انسانا وترابا؟
لماذا لم نسمع “بغم وطنية” عند احتلال حلايب وشلاتين والفشقة بل قدمها الكيزان على طبق من ذهب للاحتلال لتغض الدولتان المحتلتان مصر واثيوبيا الطرف عن محاولة اغتيال حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس ابابا؟!
السؤال الثالث: أين هو الجيش الذي يجب تخوين من لا يدعمه؟
تتحدث كتائب الظل الاعلامية، إمعانا في التدليس عن ان الاصطفاف خلف الجيش في حربه ضد الدعم السريع هي بداهة وطنية غير قابلة للنقاش، وكأنما السودان بعد الاحتلال الكيزاني لثلاثين عاما هو دولة طبيعية يجوز إسقاط الأفكار المعيارية على واقعها، في حين ان واقع السودان مأزوم، وأزماته معقدة ومركبة من المستحيل النجاح في مقاربتها بعقل بسيط وسطحي، او عقل انتهازي يمارس الابتزاز بالوطنية لتحقيق مصالح حزبية.
الوطنية الحقة في السودان تقتضي الإدراك العميق لأزمة الجيش كجزء من الأزمة الوطنية الشاملة ، والسعي لتحقيق هدف الجيش القومي المهني الواحد عبر عملية متوافق عليها للإصلاح الأمني والعسكري ، تجعل هذا الجيش فعلا لا ادعاء جيش كل السودانيين يدعمونه تلقائيا دونما حاجة لخطاب إرهابي تخويني، وهذا لن يتحقق إلا في ظل مشروع تحول ديمقراطي من أركانه السلام والمصالحة الوطنية على أساس العدالة الانتقالية، وفي هذا الأفق السياسي الجديد وبشروطه يتم التعامل مع معضلة تعدد الجيوش وعلى رأسها قوات الدعم السريع التي لا خلاف بين القوى الديمقراطية الحقيقية على حتمية دمجها في الجيش السوداني بعد تفكيك التمكين الكيزاني داخله، وليس مستحيلا ان ينجح ذلك في ظل مشروع سياسي ديمقراطي مسنود بقاعدة شعبية عريضة في كل اقاليم البلاد، ومسنود دوليا، ومخدوم بخلاصة الحكمة الوطنية والخبرات الفنية في المجال العسكري التي تحدد المدى الزمني الواقعي للدمج ولا تترك ذلك لأهواء حميدتي.
في غياب ذلك المشروع فان اي حرب لدمج الدعم السريع او القضاء عليه تماما ستكون عارية من اي مشروعية وطنية او اخلاقية، ولن تحظى بسند شعبي حقيقي، ولن تحقق نصرا حاسما كما تقول المؤشرات الماثلة أمامنا.
الحرب جراحة مؤلمة على جسد الوطن، ولكن لو كانت لقضية وطنية ذات مشروعية وبعد استنفاذ كل طرائق الحلول السياسية يكون الدعم الشعبي للجيش واجبا وطنيا.
كتائب الظل الإعلامية تريد عبر الارهاب والابتزاز فرض ثقافة تقديس الجيش وتأييده دون قيد او شرط، وطرح ذلك كبداهة متعارف عليها عالميا! هذه ليست بداهة بل بلاهة تخص الدول ذات الدكتاتوريات العسكرية المتخلفة.
في العالم الحر تخرج الشعوب في مظاهرات ضد حروب تخوضها جيوشها في الخارج!
والجيوش كمؤسسات ينفق عليها دافع الضرائب ملزمة بقواعد الشفافية المالية والرقابة البرلمانية والنقد المباشر في وسائل الإعلام والنقد الأكثر عمقا في الأفلام والروايات.
أقوى جيوش العالم من حيث التسليح والقدرات القتالية والانتصارات موجودة في الدول الديمقراطية ، أما الجيوش المقدسة والمحصنة من النقد والمختطفة للأحزاب العقائدية فلا انتصارات لها ولا تطلق النيران الا حين تستدير للوراء على حد تعبير الشاعر أمل دنقل.